Academia.eduAcademia.edu

Nietzsche: Critical sense as a foundation of gaya scienza

2019

This article attempts to clarify Nietzsche's concept of gaya scienza and the type of philosophical questions it raises in relation to life, and whether it is a denial of it with pure reason, or acknowledging it with 'free thinking'. The essence of the philosophy of life with Nietzsche is the sum of critical answers that put into question the will to knowledge and the will to truth. Its goal is to confirm the growing philosophical ties he has with knowledge and life. Both of them pay their service to man in terms of the lifestyle and the type of knowledge that goes beyond the classical abstraction of man's image. Freethinking will occupy the most important place; an illustration of this is the 'wise reason' path, which critically ventures into dogma, itself weakened by the vital action similar to 'a hammer's beats'. Thus, the acting mind with a critical sense raises the questions of man who values himself beyond good and evil.

7 (((* Mouldi Ezdini | ‫المولدي عزديني‬ ‫ الحس النقدي‬:‫نيتشه‬ ‫أساس المعرفة المرحة‬ Nietzsche: Critical Sense as a Foundation of gaya scienza ‫ يسعى هذا المقال إلى بيان ما في «المعرفة المرحة» عند نيتشه من استفهامات فلسفية‬:‫ملخص‬ .»‫ أم اعترا ًفا بها مع «الفكر الحر‬،‫ سواء أكان جحو ًدا لها مع العقل المجرد‬،‫ذات نسب بالحياة‬ ‫وق ــوام فـلـسـفــة الـحـيــاة مــع نـيـتـشــه جـمـلــة ال ــردود الـنـقــديــة الـتــي تـشـكــك فــي ال ـقــول بــإرادتــي الـمـعــرفــة‬ ‫ فكلتاهما تخدم‬.‫ بين المعرفة والحياة‬،‫ ومــرادهــا تثبيت الرابطة الفلسفية الناشئة معه‬،‫والحقيقة‬ ‫ مــن جـهــة أس ـلــوب الـحـيــاة ونـمــط الـمـعــرفــة الـتــي تـتـخـطــى الـتـجــريــد الـكــاسـيـكــي لـصــورة‬،‫اإلن ـس ــان‬ ‫ ومنه درب «العقل الحصيف» الذي‬،‫الحيز األرحــب‬ ّ ‫ والفكر الحر هو الــذي سيشكل‬.‫اإلنسان‬ ‫ على الدغمائيات التي مــن شــأن الفعل الحيوي «بضربات‬،‫ على نحو نقدي متجاسر‬،‫يشتغل‬ ،‫ يطرح العقل الفاعل بحس نقدي أسئلة اإلنسان المقدر لذاته‬،‫ وعليه‬.‫المطرقة» جعلها متهافتة‬ .‫من جهة جدارته بالحياة فيما وراء الخير والشر‬ .‫ الحياة‬،‫ المعرفة المرحة‬،‫ الحس النقدي‬،‫ الحقيقة‬،‫ المعرفة‬:‫كلمات مفتاحية‬ Abstract: This article attempts to clarify Nietzsche’s concept of gaya scienza and the type of philosophical questions it raises in relation to life, and whether it is a denial of it with pure reason, or acknowledging it with ‘free thinking’. The essence of the philosophy of life with Nietzsche is the sum of critical answers that put into question the will to knowledge and the will to truth. Its goal is to confirm the growing philosophical ties he has with knowledge and life. Both of them pay their service to man in terms of the lifestyle and the type of knowledge that goes beyond the classical abstraction of man’s image. Freethinking will occupy the most important place; an illustration of this is the ‘wise reason’ path, which critically ventures into dogma, itself weakened by the vital action similar to ‘a hammer’s beats’. Thus, the acting mind with a critical sense raises the questions of man who values himself beyond good and evil. Keywords: Knowledge, Truth, Critical sense, Gaya scienza, Life. .‫ تونس‬،‫ جامعة صفاقس‬،‫ كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬،‫* أستاذ مساعد بقسم الفلسفة‬ Assistant Professor, Department of Philosophy, Faculty of Arts and Humanities, Sfax University, Tunisia. ‫‪8‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫«في أصل مفهوم ‘المعرفة’‪ :‬لقد استوحيت هذا التفكير في الشارع عندما سمعت رجا من‬ ‫الشعب يقول‪‘ :‬لقد عرفني’! وتساءلت عند سماعي هذه الكلمات ما الذي يقصده العوام‬ ‫بالمعرفة‪ .‬إلى ماذا يسعى عندما يسأل عنها؟ ال شيء غير ذلك‪ :‬إرجاع شيء ما غريب إلى شيء ما‬ ‫‘معروف’‪ .‬ونحن معشر الفاسفة‪ ،‬ما هو الشيء الذي نضيفه إلى هذه الكلمة؟ المعروف أي ما معناه‬ ‫األشياء التي اعتدنا عليها بشكل ال تعود معه تدهشنا»(‪.(1‬‬ ‫مقدمة‬ ‫كان زرادشت الفيلسوف قد استخلص من عالم الفكر والحياة أن «لكل واحة أصنامها»(‪ .(2‬ومما‬ ‫يتعافى به عالم تطوقه قداسة التصنيم انتهاج مسلك النقد‪ .‬غير أن الفعل النقدي لم يكن حك ًرا على‬ ‫فلسفة فريدريش نيتشه (‪ )1900–1844‬وحدها‪ .‬ولعلنا نرى في كامل تاريخ الفلسفة تقريبًا ومنذ سقراط‬ ‫تخصيصا في الفلسفة‬ ‫وأفاطون مقدرة الفيلسوف على التوجه نقديًا في التفكير‪ ،‬فلقد تعمق هذا التوجه‬ ‫ً‬ ‫الحديثة مع الفيلسوف األلماني إيمانويل كنط (‪ .)1804–1724‬غير أن «نيتشه يقدم نفسه ناق ًدا للنقد‬ ‫الكنطي»((( في معظم األحيان‪ .‬وذلك من خال محاورته الفلسفية في أكثر من نص له(‪ .(4‬ومع ذلك‪ ،‬يظل‬ ‫منعطف الفلسفة النقدي في التاريخ المعاصر مقترنًا‪ ،‬إلى حد كبير‪ ،‬بما أودعه نيتشه في عالم األفكار‬ ‫من أسلوب متميز في الممارسة النقدية‪ ،‬وبخاف ما عهدناه فيها‪ ،‬من صورة كان قد رسمها المشروع‬ ‫(‪ (1‬فريدريك نيتشه‪ ،‬العلم الجذل‪ ،‬ترجمة سعاد حرب (بيروت‪ :‬طباعة دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع‪،)2001،‬‬ ‫فقرة ‪ ،(55‬ص ‪.209‬‬ ‫‪(2) Friedrich Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra: Un livre qui est pour tous et qui n’est pour personne, II: Des‬‬ ‫‪illustres sages, trad. Maurice De Gandillac (Paris: nouv. Éd. Chez Gallimard/ nrf, 2004), in: Œuvres philosophiques‬‬ ‫‪complètes, textes et variantes établis par Giorgio Colli et Mazzino Montinari, s. la dir. de Gilles Deleuze et Maurice De‬‬ ‫‪Gandillac, en 14 tomes, 18 vol. (Paris: nouv. Éd. Chez Gallimard/ nrf, 1982–2008), p. 121.‬‬ ‫وأصل القول في نصه الفرنسي ورد على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫‪"De se faire semblable à ces repus, sa soif pourtant ne le convainc, car où sont oasis, là aussi sont idoles".‬‬ ‫‪(3) Olivier Reboul, Nietzsche critique de Kant, coll. SUP (Paris: Presses universitaires de France1974), p. 20.‬‬ ‫َّأما وفقًا لقراءة دولوز‪ ،‬فقد يعزى تشريع نقد النقد مع نيتشه إلى أن «ما ينقص كنط هو منهج يسمح له بالحكم على العقل من الداخل‪،‬‬ ‫ومن دون أن يعهد له‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬بمهمة أن يكون حكم ذاته‪ .‬وبالفعل‪ ،‬ال يحقق كنط مشروعه للنقد المحايث»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Gilles Deleuze, Nietzsche et la philosophie, coll. idéa n. 39 (Tunis: Cérès éd., 1995), p. 126.‬‬ ‫والمقصود بـ «النقد المحايث» تلك المحاكمة التي أقامها العقل الكنطي بشأن ذاته وبنيته وقدراته‪ ،‬ودونما استعانة بغير ذاته‪.‬‬ ‫(‪ (4‬ولعل أهم ما في السجال الفلسفي من هذا المقام‪ ،‬هو إعادة إنتاج النص الفلسفي لذاته‪ ،‬على نحو مغاير لما كانه سابقًا‪ .‬وهو‬ ‫ما أتمه نيتشه بوجه ما في كتاب جنيالوجيا األخالق‪ .‬انظر‪ :‬في هذا الغرض قراءة دولوز في النسخة العربية‪« :‬لقد أراد نيتشه في أصل‬ ‫األخاق إعادة كتابة نقد العقل الخالص [‪ .]...‬يقدر نيتشه أن الفكرة النقدية تتحد مع الفلسفة‪ ،‬لكن كنط أخطأ هذه الفكرة‪ ،‬وأفسدها‬ ‫وخربها‪ ،‬ليس في التطبيق وحسب‪ ،‬بل منذ المبدأ‪ .]...[ .‬وإنها لفكرة نيتشية ً‬ ‫أوال‪ ،‬تلك القائلة بأن كنط أخطأ النقد‪ .‬لكن نيتشه ال يثق‬ ‫المؤسسة‬ ‫بأحد غير نفسه لتصور النقد الحقيقي والقيام به»‪ ،‬انظر‪ :‬جيل دولوز‪ ،‬نيتشه والفلسفة‪ ،‬ترجمة أسامة الحاج (بيروت‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،)199( ،‬ص (‪.11‬‬ ‫َّ‬ ‫‪9‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫الكنطي(‪ ،(5‬أو حتى في صورها السابقة(((‪ ،‬والاحقة(‪ ،(7‬على نقد العقل لذاته(‪ .(8‬ويرد ألق جذرية الحس‬ ‫النقدي النيتشي مقارنة بالكنطي(‪ ،(9‬أنه تعدى المستوى المعرفي المحض ليتواشج مع الحياتي‪.‬‬ ‫إن الحياة منتجة لجملة القيم‪ ،‬ومتى كانت هذه الحياة في تها ٍو حد الوهن‪ ،‬صارت القيم على غاية‬ ‫من االنحطاط(‪ .(10‬غير أن القيم تستحيل‪ ،‬في المقابل‪ ،‬إلى رفيعة‪ ،‬متى كانت منظوريتنا بشأنها أكثر‬ ‫تعظي ًما للمتعافى منها‪ ،‬فالحس النقدي الذي تحتاجه استقامة الفكرة الفلسفية هو الذي يمسك بما‬ ‫في الكتابة من عدم وضوح‪ ،‬وما في الفكر من عفن‪ ،‬وبما ليس من الحياة في شيء‪ .‬ففي الوثوقي من‬ ‫عالم األنساق الفلسفية‪ ،‬لطالما تفرد الدغمائيون بحمل الكثير من األقنعة؛ لتكون حجابًا مان ًعا للحياة‬ ‫نفسها(‪ .(11‬وعليه‪ ،‬تجاسر الفيلسوف األلماني نيتشه‪ ،‬في النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬على‬ ‫(‪ (5‬لقد سبق لدولوز أن طرح السؤال المربك‪« :‬ما نتائج مشروع بهذه العظمة؟ أال يعترف كنط‪ ،‬منذ الصفحات األولى‪ ،‬بأنه ليس نقدً ا‬ ‫تسامحا‪،‬‬ ‫كليا أكثر‬ ‫ً‬ ‫إطا ًقا؟ يبدو أن كنط خلط بين إيجابية النقد واعتراف متواضع بحقوق المتعرض للنقد‪ .‬لم يحدث أن رأينا من قبل نقدً ا ً‬ ‫أو نقدً ا أكثر احترا ًما»‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪ .115–114‬ونحسب أن دولوز قد بنى موقفه بالعودة إلى نصين أساسيين لكنط‪ .‬األول منهما‪:‬‬ ‫‪Emmanuel Kant, Critique de la raison pure, Jules Barni & P. Archambault (trad.), Luc Ferry (préf.), Bernard Rousset‬‬ ‫‪(chro. & bib.) (Paris: G. Flammarion, 1987), p. 31.‬‬ ‫أما الثاني‪ ،‬فهو‪:‬‬ ‫‪Emmanuel Kant, Critique de la raison pratique, François Picavet (trad.), Ferdinand Alquié (int.) Quadrige Grands‬‬ ‫‪textes (Paris: Presses universitaires de France, 1989), pp. 1–3, 9.‬‬ ‫((( من ذلك نقد أرسطو للسابقين‪ ،‬ومن بعده سبينوزا لديكارت‪.‬‬ ‫(‪ (7‬كما هو الحال في نقد هيغل لكنط‪ ،‬أو ماركس لهيغل‪ .‬فمجمل التاريخ الفلسفي هو ممارسات نقدية متكثرة المناظر والصيغ‪.‬‬ ‫(‪ (8‬يبدو أن دولوز منساق في اتجاه تعليل موقف نيتشه النقدي من فلسفة العقل الكنطي‪ .‬وذلك لـ «استنتاجه أن على النقد أن يكون‬ ‫نقدً ا للعقل بالعقل ذاته‪ .‬أليس ذلك هو التناقض الكنطي؟»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Deleuze, Nietzsche et la philosophie, p. 123.‬‬ ‫فا نرى بخاف دولوز أي تناقض كنطي في مثل هذا السياق‪ .‬فكيف لنا أن نرى في نقد العقل لذاته بذاته وجه تناقض؟ ذلك أنه إذا‬ ‫مارس العقل النقد‪ ،‬فهل توجد أداة أخرى غير العقل لمراسها؟ وما وجه التناقض أن ينثني العقل إلى ذاته ناقدً ا إياها؟‬ ‫(‪ (9‬من البديهي أن تتنوع صيغ النقد فيما يتعلق بمدار الخطاب الفلسفي‪ .‬وفي هذا السياق من التفريد والتفكير‪ ،‬فإن نيتشه «يريد أن‬ ‫يكون جذر ًيا بطريقة مختلفة عن كنط»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Angèle Kremer–Marietti, L’Homme et ses labyrinthes: Essai sur Friedrich Nietzsche, Coll. Inédit (Paris: Union générale‬‬ ‫‪d’éditions, 1972), p. 72.‬‬ ‫كثيرا ما استهزأ نيتشه باإلنسان المنحط‪ .‬وفي قراءة لغرانيي‪ ،‬يعود ذلك إلى خطر «االنحطاط‪ ،‬بوصفه أصل الكذب الميتافيزيقي‪،‬‬ ‫(‪(10‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غير أنه ال يدرك فضا عن ذلك هذا الكذب بما هو كذب»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Jean Granier, Le Problème de la vérité dans la philosophie de Nietzsche, Coll. L’ordre philosophique, 2nde éd. (Paris:‬‬ ‫‪Seuil,1966), p. 245.‬‬ ‫(‪ (11‬يتمحور المأخذ النقدي ههنا تحديدً ا حول فئة بعينها من الفاسفة‪ ،‬وليس كلهم‪ .‬ولقد سبق لنيتشه نفسه بيان ذلك في النص‬ ‫كثيرا من الزمن الذي سنفهم فيه‪ ،‬مرة تلو مرة‪ ،‬أن ما كان يكفي حجر أساس لمثل تلك العمارات الفلسفية‬ ‫اآلتي‪« :‬لعلنا نقترب ً‬ ‫الساطعة الامشروطة التي كان يشيدها الدغمائيون حتى اآلن‪ ،‬إنما هو نوع من خرافة شعبية تعود إلى زمن غابر ال يبلغه فكرنا (مثال‬ ‫خرافة النفس التي ال تزال تعيث فسا ًدا حتى اليوم بحلة خرافة الذات واألنا)‪ ،‬أو ربما نوع من اللعب اللفظي والحيلة النحوية والتعميم‬ ‫الجسور لوقائع ضيقة‪ ،‬وشخصية جدً ا‪ ،‬إنسانية جدً ا‪ ،‬ومفرطة في اإلنسانية»‪ ،‬انظر‪ :‬فريدريك نيتشه‪ ،‬ما وراء الخير والشر‪ :‬تباشير‬ ‫فلسفة للمستقبل‪ ،‬تعريب جيزيا فالور حجار‪ ،‬مراجعة موسى وهبه (الجزائر‪ :‬المؤسسة الوطنية لاتصال والنشر واإلشهار؛ بيروت‪:‬‬ ‫دار الفارابي‪ ،)200( ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪10‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫التوجه بالنقد المزلزل ضد من حال دون التواؤم بين الفلسفي والحياتي‪ ،‬فأنكر عليه بعضهم حدة‬ ‫كلمته لما تتوفر عليه من جرأة في القول والكتابة‪ ،‬حد اتهامه بالمارق عن مملكة النسق‪ .‬إذ مارست‬ ‫هذه األخيرة الكثير من الغواية على بعض العلماء والميتافيزيقيين والاهوتيين والفاسفة ما مارسته‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬كان يقول فيهم‪« :‬لقد وصفوا أعمالي بمدرسة الشك‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬بمدرسة االزدراء‪ ،‬كما‬ ‫وصفوها‪ ،‬لحسن الحظ‪ ،‬بمدرسة الشجاعة‪ ،‬بل بمدرسة الجسارة‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬إنني أعتقد أنا أيضً ا‬ ‫أن ال أحد قد نظر إلى العالم بشك في عمق شكي‪ ،‬وليس فقط كمحامي الشيطان‪ ،‬عند االقتضاء‪ ،‬بل‬ ‫كذلك‪ ،‬وحتى أتكلم مثل الفقهاء‪ ،‬كعدو اإلله ومتهمه»(‪ .(12‬تتمثل الفضيلة المبدئية للحس النقدي في‬ ‫تعرية ما في الخانة الرمادية من حداثة أوروبا‪ ،‬من نزوع نحو العدمية السلبية((‪.(1‬‬ ‫ً‬ ‫أوال‪ :‬تصريف سؤال النقد‬ ‫حا صدئًا‪ ،‬أكثر المفاتيح صدأً؛ وكنت أعرف كيف أفتح به أكثر األبواب صري ًرا»(‪.(14‬‬ ‫«كنت أحمل مفتا ً‬ ‫كان نيتشه قد فرق بين معرفة «الفيلسوف»(‪ (15‬الموسوم بـ «الطبيب»((‪ (1‬والعليم بنسبة المعرفة الطبيعية‪،‬‬ ‫إلى «الفلسفة الشعبية النبيلة»(‪ (17‬وبين معرفة «شغيلة الفلسفة»(‪ (18‬المخادعة لنفسها بتعالمها‪ .‬فاألول‬ ‫يشتغل ضمن األفق المنظوري للنقد الغليظ‪ .‬أما الثانية فتركن إلى موضع ال يخدم النقد الفلسفي في‬ ‫شيء؛ لذلك‪ ،‬يقول لسان حال الطبيب المشخص‪ /‬الناقد‪« :‬نحب أن نستعمل التجربة في معنى موسع‬ ‫وخطير‪ ،‬ولكن بالنظر إلى نقد مفهوم بعمق أكثر»(‪ .(19‬فما العمق في النقد؟ أليس هو عين تصريفه‬ ‫في منظورات حادثة‪ ،‬تتجاوز المنصرم من رؤى الفلسفة الكاسيكية لنفسها؟ لعله يكون من فضائل‬ ‫التشخيص النقدي ما يتوفر عليه من ممكنات‪ ،‬يقوى بها على تأسيس إمكانية تفكر ضد اإلدانة الدائمة‬ ‫(‪ (12‬فريدريريك نيتشه‪ ،‬إنسان مفرط في إنسانيته‪ :‬كتاب العقول الحرة‪ ،‬ترجمة محمد الناجي‪ ،‬ج ‪( 1‬الدار البيضاء‪ :‬أفريقيا الشرق‪،‬‬ ‫‪ ،)1998‬ص ‪.9‬‬ ‫((‪ (1‬يمكن الرجوع في هذه المسألة التي فيها وصل بين النقد والعدمية إلى هذا النص من تاريخ الفلسفة‪« :‬إن النقد العنيف‬ ‫المسعور؛ فهذا النقد‪ ،]...[ ،‬يغير من طبيعته عندما يتصدى نيتشه لذلك الشر واسع االنتشار الذي يسميه في إرادة القوة بالعدمية‬ ‫األوروبية»‪ ،‬انظر‪ :‬أميل برهييه‪ ،‬تاريخ الفلسفة‪ :‬الفلسفة الحديثة (‪ ،)1945–1850‬ترجمة جورج طرابيشي‪ ،‬ج ‪( 7‬بيروت‪ :‬دار الطليعة‬ ‫للطباعة والنشر‪ ،)1987 ،‬ص ‪.128‬‬ ‫(‪ (14‬فريدريريك نيتشه‪ ،‬هكذا تكلم زرادشت‪ :‬كتاب للجميع ولغير أحد‪ ،‬الكتاب الثاني‪ ،‬ترجمة وتقديم علي مصباح (كولونيا‪:‬‬ ‫منشورات الجمل‪ ،)2007 ،‬ص ‪.2(4‬‬ ‫‪(15) Friedrich Nietzsche, Le Livre du philosophe: Études théorétiques, tome. II (trad.) de l’allemand, int. et notes par‬‬ ‫‪Angèle Kremer–Marietti (Paris: Garnier Flammarion, 1991), § 175, p. 113.‬‬ ‫معنيا بمعافاة «حضارة شعبه»‪ ،‬فقرة ‪ ،170‬ص ‪ ،109‬أو حتى بتثبيت أسس معرفية‬ ‫((‪ (1‬المرجع نفسه‪ .‬وسواء أكانت صورته‪ ،‬بوصفه ً‬ ‫جديدة مأتاها الجنيالوجي «فلسفة شعبية موجهة للشعب‪ ،‬ال للعوام»‪ ،‬ج ‪ ،I‬فقرة ‪ ،29‬ص ‪.44‬‬ ‫(‪ (17‬المرجع نفسه‪.‬‬ ‫‪(18) Friedrich Nietzsche, Par–delà bien et mal: Prélude d’une philosophie de l’avenir, 6 partie : Nous, les savants,‬‬ ‫‪trad. de l’allemand par Cornélius Heim, Isabelle Hildenbrand et Jean Gratien, in: Œuvres philosophiques complètes,‬‬ ‫‪tome. VII (Paris: Plessis–Trévise, 2006), § 211, p. 131.‬‬ ‫‪ème‬‬ ‫‪(19) Friedrich Nietzsche, Fragments posthumes: Automne 1884–automne 1885, trad. Michel Haar et Marc B. De‬‬ ‫‪Launay, in: Œuvres philosophiques complètes, tome. XI (Paris: Gallimard, 1982), § 35 [43], p. 259.‬‬ ‫‪11‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫للعقل من «الضمير الحيواني المرتاح»(‪ .(20‬ذلك أنه من جملة ما يشرع لعافية التفلسف هو ما يمكن أن‬ ‫يكون عليه عقل الفيلسوف‪ ،‬ذو الملمح الجنيالوجي والنقدي‪ ،‬مثلما كان عليه عقل نيتشه(‪ (21‬من عزم‬ ‫في الكشف عما اعتبره بعض الفاسفة منقلبات إبستمولوجية‪ ،‬تهم نظام المعارف النظرية‪ ،‬وحسب‪.‬‬ ‫أساسا بما منحته المعرفة لنفسها من منزلة مبالغ في تقديرها‪ .‬ويشمل‬ ‫وبالنتيجة‪ ،‬يتعلق النقد النيتشي‬ ‫ً‬ ‫هذا النقد‪ ،‬بحسب منطق التشخيص‪ ،‬األعمدة الثاثة للمعرفة في صيغتها الكاسيكية‪:‬‬ ‫المثل التي أنتجتها تلك المعرفة‪ ،‬من قبيل‪« :‬كيف تكون األحكام التأليفية القبلية ممكنة؟»(‪ .(22‬كما‬ ‫• ُ‬ ‫((‪(2‬‬ ‫هو الحال مع الفلسفة النظرية المحض مع كنط‪ ،‬أو «فكرة الخير» مع أفاطون‪ ،‬أو أنا أفكر‪ ،‬إ ًذا أنا‬ ‫موجود»(‪ (24‬مع ديكارت؛ حيث يسأل نيتشه هذه المثل وفقًا ألنحاء عدة‪ ،‬من قبيل‪ :‬ما اللزوم الفلسفي‬ ‫مجرد قضايا لغوية تعكس انحباس العقل الفلسفي في أطوا ٍر معينة‬ ‫لها؟ هل هي خادمة للحياة؟ أال تكون ّ‬ ‫من اشتغاله؟ وما نفعها للحياة؟ وهل تحوز في متونها ما يكفي من «لغة االستجابة اإلثباتية للحياة»(‪.(25‬‬ ‫• ما منشأ هذه األحكام التي عجل بعض الفاسفة بإصدارها‪ ،‬فتدافعوا متحاورين بمقوالت مجردة؟‬ ‫أتكون من قبيل المتنفس الفيزيولوجي ألصحابها‪ ،‬أم الجحود التشاؤمي والعقاني للحسي‬ ‫((‪(2‬‬ ‫والحياتي؟‬ ‫• ما اإلرادة التي تحكمت في تلك المثل؟ وعمن توارثها الفيلسوف الحديث؟ وما غنم الحياة والفكر‬ ‫منها؟ ومن سيتحصن بها الحقًا من أشقياء المعرفة من أهل الـافلسفة؟‬ ‫«ربما»(‪ (27‬األهم في مثل هذه االستشكاالت هو وضع المعرفة موضع المساءلة؛ بغرض تقويم قيمتها‬ ‫أصا‪ً .‬‬ ‫وقيمة إرادتها ً‬ ‫فضا عن أسباب اإلذعان لطلبها‪ ،‬بوصفها منتجة للحقيقة‪ .‬فالفيلسوف «الخطاء» (إن‬ ‫(‪ (20‬نيتشه‪ ،‬العلم الجذل‪ ،‬فقرة ‪ ،77‬ص ‪.80‬‬ ‫(‪ (21‬يقول نيتشه في هذا الغرض وبشأن عظمة عقول فلسفية بعينها‪« :‬ال ندع أنفسنا ننساق إلى الضال؛ فالعقول العظيمة ريبية‪.‬‬ ‫وزرادشت ريبي‪ .‬فالقوة والحرية المتأتية من الطاقة وفائض طاقة العقل تفصح عن نفسها‪ ،‬من خال الريبة»‪ ،‬انظر‪ :‬فريدريريك نيتشه‪،‬‬ ‫نقيض المسيح‪ :‬مقال اللعنة على المسيحية‪ ،‬ترجمة علي مصباح (بيروت‪ :‬منشورات الجمل‪ ،)2011 ،‬فقرة ‪ ،54‬ص ‪.122‬‬ ‫‪(22) Kant, Critique de la raison pure, p. 69.‬‬ ‫((‪ (2‬أفاطون‪ ،‬جمهورية أفالطون‪ ،‬الكتاب السابع‪ ،‬ترجمة ودراسة فؤاد زكريا (اإلسكندرية‪ :‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪،)2004 ،‬‬ ‫فقرة ‪ ،517‬ص (‪.40‬‬ ‫‪(24) René Descartes, Discours de la méthode, avec des aperçus sur le mouvement des idées avant Descartes, une‬‬ ‫‪biographie chronologique, une int. à l’œuvre, une analyse méthodique du Discours, des notes, des questions et des‬‬ ‫‪documents par J.–M. Fataud, 2nde éd. Coll. Univers des Lettres (Paris: Bordas, 1980), p. 72.‬‬ ‫(‪ (25‬بيتر سلوتردايك‪ ،‬اإلنجيل الخامس لنيتشه‪ ،‬ترجمة علي مصباح (كولونيا‪ :‬منشورات الجمل‪ ،)200( ،‬ص ‪.55‬‬ ‫((‪ (2‬يمكن الرجوع إلى نص منتزع‪ ،‬تناول فيه نيتشه هذه المسألة المحيرة من مامح غير دقيقة لفاسفة‪ ،‬قد يعتقد فيهم الفعل‬ ‫الجسور‪ .‬ولكنهم غير ذلك؛ إذ يقول‪« :‬كنت أعتبر التشاؤم الفلسفي للقرن التاسع عشر على أنه عارض لتفكير أشد حز ًما من تفكير‬ ‫انتصارا؛ لدرجة كنت أعتبر‬ ‫بأسا لحيوية أشد‬ ‫القرن الثامن عشر‪ ،‬عصر هيوم وكنط وكاندياك والحسيين‪ ،‬على أنه مؤشر لشجاعة أشد ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خطرا‪ ،‬لهذه الثقافة‪،‬‬ ‫نوعا من التبذير األشد كلفة‪ ،‬واألشد نبا واألشد‬ ‫المعرفة المأسوية كالرفاهية الحق لحضارتنا؛ كنت أرى فيها ً‬ ‫ً‬ ‫ولكنه ً‬ ‫أيضا وبفضل وفرته‪ ،‬رفاهيته الشرعية»‪ ،‬انظر‪ :‬نيتشه‪ ،‬العلم الجذل‪ ،‬الكتاب الخامس‪ ،‬فقرة ‪ ،(70‬ص ‪.2(1–2(0‬‬ ‫كثيرا ما يستخدم نيتشه هذه الكلمة‪ ،‬ويصفها بـ «الخطرة»‪.‬‬ ‫(‪(27‬‬ ‫ً‬ ‫‪12‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫جاز هذا التوصيف المخالف لمعايير نيتشه في القراءة) ما أدرك من عواهن المعرفة إال ما يؤسس لتوسعة‬ ‫مدار الخياء الميتافيزيقية‪ .‬أما بالنسبة إلى نيتشه‪ ،‬فإنه «يعترض إ ًذا بالمعرفة على الحياة‪ ،‬كما لو كان ذلك‬ ‫ضام ًنا للسلم والقانون‪ ،‬ضد ما ينذر النظام والعقل‪ ،‬فتظهر الحياة كما لو كانت الخطأ األكبر‪ ،‬وسيصير‬ ‫مشتبها في الفن لكياسته ضد هذا الخطر»(‪ .(28‬إ ًذا‪ ،‬يقوم الفعل النقدي النيتشي على بيان ما في إنكار‬ ‫الحياة من النظرانيين والميتافيزيقيين والتجريديين من خطر على الحياة عينها‪ .‬وعليه‪ ،‬يثور ضد هؤالء‬ ‫انتصارا منه للحياة وتثبي ًتا لها‪ .‬وهو ما جعله يجدد في صورة المعرفة لتكون مشرعة للحياة‪ .‬وما يشرعها‬ ‫ً‬ ‫سوى اإلقبال عليها واأللفة معها‪ .‬فما المعنى الممكن لمسألة تصريف سؤال النقد؟‬ ‫ههنا يستحيل سؤال النقد من سؤال مفرد للعقل إلى جموع من األسئلة في فقه «فلسفة الما وراء»‪.‬‬ ‫فرع سؤال النقد إلى ثاثة‪ ،‬ولكنه انتهى إلى حوصلتها في السؤال الرئيس‪« :‬ما‬ ‫صحيح أن كنط ّ‬ ‫اإلنسان؟»(‪ .(29‬هذا ما كان عليه تصريف سؤال النقد في الفلسفة العقانية النقدية‪ .‬أما من منظور‬ ‫فلسفة الحياة‪ ،‬وحيثما ستحتاج مجمل القيم إلى أسانيد نقدية مستحدثة‪ ،‬فستصبح أسئلة الناس على‬ ‫غاية من الكثرة والتنوع‪ ،‬وما على فعال النقد إال فلحها‪ ،‬بترسيخها في بساط الفلسفة وأطرافه‪ .‬لذا‪،‬‬ ‫يطال النقد أوسع حقول التفكير كما أضيقها‪ ،‬مثلما هو الحال في كتاب ما وراء الخير والشر‪ ،‬فاعتبر‬ ‫نيتشه «هذا الكتاب ((‪ )188‬في جوهره نقدً ا للحداثة؛ للعلوم الحديثة‪ ،‬والفنون الحديثة‪ ،‬ولم تستثن‬ ‫منه حتى السياسة الحديثة‪ ،‬إلى جانب كونه إشارة إلى نموذج مضاد أقل حداثة قدر اإلمكان؛ نموذج‬ ‫ً‬ ‫مشتركا من‬ ‫متكثرا‪ .‬غير أن في كثرته هذه‬ ‫نبيل وإثباتي»(‪ .((0‬لم يعد إ ًذا‪ ،‬مدار السؤال واحدً ا فقد بات‬ ‫ً‬ ‫جهة أغراض معظم الفاسفة‪ :‬إرادة الحقيقة ومعناها‪ .‬عمل النقد مع نيتشه قائم على التوجه نحو تخوم‬ ‫منشأ اإلرادة التي انشدت إلى مبحث الحقيقة‪ ،‬وكما لو صارت كل الفلسفة قابلة لاختزال فيه‪ .‬يتنزل‪،‬‬ ‫إ ًذا‪ ،‬سؤال المعنى الذي طالما شغله نيتشه‪ :‬ما معنى إرادتي المعرفة وإرادة الحقيقة؟ ال‪ ،‬بل إن النقد‬ ‫تجذرا ما أن يطرح سؤال‪« :‬ما الذي تريده هذه اإلرادة»؟ وما الذي تخفيه؟ وما القوى الناعمة‬ ‫ليزداد‬ ‫ً‬ ‫والصموتة الدافعة بطائفة من الفاسفة إلى افتراض أن توجد معرفة حبلى بالحقيقة؟‬ ‫وحتى يكون فعل التفلسف حماالً لمعناه‪ ،‬ومكتسبًا لقيمته‪ ،‬عليه طرح المساءلة التالية‪ :‬من‬ ‫اإلنسان – الحق؟ وما الحقيقة التي يريدها؟ ومن اإلنسان – العارف؟ وما الذي يريده من هذه المعرفة؟‬ ‫حبس؟ وما لعبة القوى التي سيق به إليها؟ وعلى أي نحو ُوجد‬ ‫وما عاقات القوى التي تموضع فيها و ُ‬ ‫فيها‪ ،‬أو ارتهن؟ وما مستطاعه على إدارة الصراع في عالمها‪ ،‬وقد تنمقت فصاحة المستحوذين عليها؟‬ ‫‪(28) André Simha, Nietzsche, Coll. Pour connaître (Paris: Bordas, 1988), p. 66.‬‬ ‫علي فعله؟ ماذا يمكنني رجاؤه؟»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫(‪ (29‬وجماع هذه األسئلة‪« :‬ما الذي بوسعي معرفته؟ ما الذي يجب ّ‬ ‫;‪Kant, Critique de la raison pure, p. 602‬‬ ‫جامعا‬ ‫وفي عام ‪ ،1800‬اختزلها في كتابه المخلف‪ ،‬والمحقق من طلبته‪ ،‬بعد ضم األسئلة الثاثة إلى سؤال «ما اإلنسان؟» وبوصفه‬ ‫ً‬ ‫مانعا «لميدان الفلسفة بالمعنى الكوسموبوليتي»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫ً‬ ‫‪Emmanuel Kant, Logique, Louis Guillermit (trad.) (Paris: Vrin, 1970), p. 25.‬‬ ‫(‪ ((0‬فريدريريك نيتشه‪« ،‬ما وراء الخير والشر‪ :‬توطئة لفلسفة مستقبلية»‪ ،‬الفصل ‪ ،10‬في‪ :‬هذا هو اإلنسان‪ ،‬ترجمة علي مصباح‬ ‫(كولونيا‪ :‬منشورات الجمل‪ ،)200( ،‬فقرة ‪ ،2‬ص ‪.1(2–1(1‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫‪13‬‬ ‫تلك هي جموع االستفهامات‪ ،‬وقد أشكلت على من يتعاطى النقد‪ .‬نعثر ههنا على ما يشبه اإلجابة عند‬ ‫نيتشه‪« :‬نحن أول عصر مثقف في ما يخص ‘األزياء’‪ ،‬أعني الخلقيات والمعتقدات واألديان واألذواق‬ ‫الفنية‪ ،‬عصر مهيأ أكثر من أي زمن مضى الحتفال تنكري فخم األسلوب‪ ،‬للضحك والهرج الكرنفالي‬ ‫األكثر روحية‪ ،‬بل لقمة الحمق األعلى التجاوزية‪ ،‬وللسخرية من العالم»(‪ .((1‬إن تحديد المعنى‪ ،‬والعثور‬ ‫على مواطنه يقتضي تحديد «القوة التي تتملك الشيء‪ ،‬أو تستغله‪ ،‬أو تستولي عليه أو تعبر عن نفسها‬ ‫فيه»(‪ .((2‬فثمة قوة كامنة في موضوع التشخيص الجنيالوجي هي منبع المعنى‪ .‬وهذه القوة ال تتمظهر‬ ‫في مستوى السطح للظاهرة‪ ،‬إال بما هي عرض‪ .‬ولعل هذا ما قصده دولوز من اعتباره «الظاهرة ليست‬ ‫مظه ًرا وال حتى ظهو ًرا‪ ،‬بل هي عامة‪ ،‬هي عرض نجد معناه في قوة حالية‪ .‬الفلسفة بكاملها علم‬ ‫أعراض ونظرية عامة للعامات»((((‪ .‬يرى دولوز أن نيتشه يتجاوز بعلم األعراض‪ ،‬هذا‪ ،‬مستوى التفاسير‬ ‫المعهودة التي ال تتخارج‪ ،‬في النهاية‪ ،‬عن دائرة الميتافيزيقا‪ .‬ولربما يعزى للفلولوجيا‪ ،‬بوصفها فر ًعا من‬ ‫فروع علم اللغة‪ ،‬الفضل في اهتمام النقد بدراسة اآلداب القديمة ولغاتها‪ ،‬وخاصة اليونانية والاتينية‪ .‬إذ‬ ‫وفضا عن ذلك‪ ،‬فقد يسر التواشج‬ ‫ً‬ ‫قد يكمن هنا مرصد متاهة العقل الفلسفي في بعض من تواريخه‪.‬‬ ‫بين فعل الفلولوجيا وفعل النقد متابعة ما بار من «مخازن» الفلسفة‪ .‬لذلك‪ ،‬اتخذت الفلولوجيا منحى‬ ‫الدراسة النقدية التاريخية المترصدة للتصدعات التي طرأت على لغة ما وتطوراتها ومنعرجاتها‪.‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬صور النقد‬ ‫«أسعى جهدي؛ كي أتمثل أي نوع من الحساسية الخصوصية(‪ ((4‬استطاع أن يقود إلى مثل هذه المعادلة‬ ‫السقراطية‪ :‬عقل = فضيلة = سعادة‪ :‬تلك المعادلة األغرب مما يمكن أن يوجد من الغرابات‪ ،‬والتي‬ ‫تعارضها كل الغرائز الهيللينية‪ ،‬على نحو خاص»(‪.((5‬‬ ‫يُعتقد في العادة أن منظورية نيتشه الناقدة للعقل قد قضت عليه تما ًما حد فقدانه قيمته الفلسفية‪ .‬وهذا حكم‬ ‫غير موزون؛ لمخالفته روح المتن النيتشي‪ ،‬في مجمله((((‪ .‬لكن‪ ،‬حري بنا القول إن العقل هو ممارس النقد‬ ‫«عقا ح ًرا»‪ ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫هائا‪ .‬غير أن قيمته في تحويله‪ ،‬بمعنى جعله‬ ‫المتحرر‪ .‬صحيح أن نيتشه كال للعقل نق ًدا ً‬ ‫(‪ ((1‬نيتشه‪« ،‬فضائلنا»‪ ،‬الفصل السابع‪ ،‬في‪ :‬ما وراء الخير والشر‪ ،‬فقرة (‪ ،22‬ص (‪.18‬‬ ‫(‪ ((2‬دولوز‪ ،‬نيتشه والفلسفة‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫(((( المرجع نفسه‪.‬‬ ‫‪(34) Idiosyncrasie.‬‬ ‫قر ًعا بالمطرقة‪ ،‬ترجمة علي مصباح (بيروت‪:‬‬ ‫(‪ ((5‬فريدريك نيتشه‪« ،‬مشكلة سقراط»‪ ،‬في‪ :‬غسق األوثان‪ :‬أو كيف نتعاطى الفلسفة ْ‬ ‫منشورات الجمل‪ ،)2010 ،‬فقرة ‪ ،4‬ص ‪.27‬‬ ‫(((( انظر‪ :‬هذا التنسيب في موقف بعض القراء من العقل في المنظورية النيتشية‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬بين أن «نيتشه ال يعترض على العقل‬ ‫بإطاق‪ ،‬إنما يعترض على العقل العدمي»‪ ،‬انظر‪ :‬نور الدين الشابي‪ ،‬نيتشه ونقد الحداثة‪ ،‬سلسلة أطروحات (تونس‪ :‬دار المعرفة‬ ‫للنشر‪ ،)2005 ،‬ص ‪ .(91‬ويمكن الرجوع ً‬ ‫أيضا في السياق ذاته إلى هذا النص المحدد لنوع العقل المعترض عليه‪« :‬كان العقل في‬ ‫ذلك الحين مبدأ مضادا للحياة [‪ .]...‬كان ذلك في الوقت الذي ظن أن للعقل مبادئه الثابتة التي يجب أن يخضع لها الواقع»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫فؤاد زكريا‪ ،‬نيتشه‪ ،‬ط ‪ ،2‬سلسلة نوابغ الفكر الغربي (القاهرة‪ :‬دار المعارف بمصر‪ ،)19(( ،‬ص ‪.12‬‬ ‫‪14‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫«عقا حصيفًا»(‪ .((7‬غير أن صيغ النقد وممارسته قد اتخذت لها صو ًرا تفردت بها مع نيتشه‪ ،‬فتبث أسلوبًا‬ ‫ً‬ ‫جا ولفظًا‪ ،‬على غير أنحاء ما أتاه السابقون من ذات الغرض‪ .‬ولم يعد أفق النقد‪ ،‬كما‬ ‫للفعل النقدي‪ ،‬ومنه ً‬ ‫(‪((8‬‬ ‫كان في جله‪ ،‬من جنس اإلبستمولوجيات‪ ،‬بل أصبح منزالً في إطار أكسيولوجي‪ :‬فلسفة القيم النقدية ‪.‬‬ ‫ومرد ذلك أن المسألة المعرفية التي كانت مقدمة على غيرها من المسائل الفلسفية‪ ،‬والعتبارات نظرية‪ ،‬لم‬ ‫تعد هي المنطلق مع النقد الجنيالوجي‪ .‬ولئن تناول نيتشه مسألة المعرفة (معضلة وإرادة وحقيقة) فلكي‬ ‫يجعلها متهافتة‪ ،‬شأنها شأن منظومتها الميتافيزيقية‪ .‬فما الصور التي وسمت فن النقد في الفلسفة النيتشية؟‬ ‫نتوقف اختصا ًرا عند ثاث صور‪ ،‬تحلى بها النقد‪ ،‬كصناعة فلسفية‪:‬‬ ‫تفقها في اللغة‪ ،‬وتصري ًفا لها كش ًفا عن معاني القيم المختلفة‪ .‬مكن فقه اللغة نيتشه من الكشف‬ ‫• النقد ً‬ ‫عما هو جد متداخل في مستوى التسميات المحمولة على التوصيفات القيمية للناس واألشياء‬ ‫والحياة(‪((9‬؛ ولهذا‪ ،‬سعى نيتشه إلى رصد ما قد تعتمده بعض التسميات من إخفاء لقوى الفعل‪ ،‬أو‬ ‫رد الفعل‪ .‬ويكون تحوير معاني القيم هو الغرض من تطويع اللغة‪ ،‬في هذا االتجاه أو ذاك‪ .‬وفي هذا‬ ‫المقام‪ ،‬يرى نيتشه أنه «متى وجدت قرابة لغوية‪ ،‬فا مهرب من فلسفة نحو مشتركة‪ ،‬أعني هيمنة نفس‬ ‫الوظائف النحوية ومفعولها – تهيئ الفكر إلنتاج أنساق فلسفية تزكو بذات المنوال وتتواتر بداخل‬ ‫ذات النظام‪ ،‬في حين تبدو الطريق محجرة أمام بعض اإلمكانيات األخرى لتأويل الكون»(‪ .(40‬وعليه‪،‬‬ ‫فمن متممات نقد البسيكولوجيا البشرية المريضة(‪ (41‬انتهاج نيتشه مسار نقد اللغة المتبرمة‪ ،‬من حيث‬ ‫إسنادها األسماء والنعوت على غير ما تكون عليه المسميات حقًا(‪ .(42‬وأهم ما استخلصه نيتشه من‬ ‫(‪ ((7‬هناك تسميتان للعقل‪ ،‬حملهما عليه نيتشه‪ً :‬‬ ‫وثانيا‪ :‬العقل الحصيف ‪.La grande raison‬‬ ‫أوال‪ :‬العقل الحر ‪ً .La raison libre‬‬ ‫انظر‪ :‬نيتشه‪ ،‬إنسان مفرط في إنسانيته‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ .14‬على الرغم من اعتباره «لم يولد العقل خال األزمان المنصرمة سوى أخطاء»‪،‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫‪Friedrich Nietzsche, Le Gai savoir: La Gaya Scienza, liv. 3, Pierre Klossowski (trad.), éd. Revue et augmentée par Marc‬‬ ‫‪B. De Launay, tome. V, in: Œuvres philosophiques complètes (Paris: Gallimard, 2006), § 110, p. 139.‬‬ ‫(‪ ((8‬حول قلب منظورية النقد من المعرفي اإلبستمولوجي إلى القيمي األكسيولوجي‪ ،‬يمكن الرجوع إلى هذا النص‪« :‬النقد القيمي‬ ‫للمعرفة عند نيتشه كان قد دشن هذا النقد للمعرفة‪ ،‬لكن من وجهة نظر قيمية‪ ،‬ال من وجهة نظر ابستمولوجية»‪ ،‬انظر‪ :‬عبد الرزاق‬ ‫بلعقروز‪ ،‬المعرفة واالرتياب‪ :‬المساءلة االرتيابية لقيمة المعرفة عند نيتشه وامتداداتها في الفكر الفلسفي المعاصر (بيروت‪ :‬منتدى‬ ‫المعارف‪ ،)201( ،‬ص (‪.1‬‬ ‫بسيكولوجيا‪ ،‬وذلك في فكرة نيتشه‬ ‫(‪ ((9‬انظر‪ :‬تقولب اللغة من قبل المرضى حين يطوعون مفاهيم األخاق لغرائزهم الواهنة‬ ‫ً‬ ‫نزوعا إلى التقريب بين اللفظين‪ :‬خير وغبي»‪ ،‬نيتشه‪« ،‬ما النبيل؟»‪ ،‬الفصل‬ ‫التالية‪« :‬كلما كانت الغلبة ألخاق العبيد‪ ،‬أظهرت اللغة ً‬ ‫التاسع‪ ،‬في‪ :‬ما وراء الخير والشر‪ ،‬فقرة ‪ ،2(0‬ص ‪.250‬‬ ‫‪(40) Friedrich Nietzsche, Par–delà/Chapitre I: "Des préjugés des philosophes," § 20, p. 38‬‬ ‫(‪ (41‬قد تجد القوى النكوصية في نظام المفردات اللغوية ستارة للتخفي‪ ،‬فتسرف في تشغيل الكلمة كيفما اتفق‪ .‬انظر‪ :‬قول نيتشه‪:‬‬ ‫«باعتقاد اإلنسان خال حقب زمنية مديدة في المفاهيم‪ ،‬وفي أسماء األشياء‪ ،‬كما لو توفرت على كثير من الحقائق الخالدة‪ ،‬فقد أفرد‬ ‫ِ‬ ‫فعليا معرفة بالعالم»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫نفسه حقيقة بهذه الكبرياء التي سما بها على‬ ‫الحيوان‪ :‬كان يتخيل أنه باللغة يمتلك ً‬ ‫‪Friedrich Nietzsche, Humain, trop humain: Un livre pour esprits libres1, trad. Robert Rovini, éd. Revue par Marc B. De‬‬ ‫‪Launay, tome. III (Paris: Gallimard, 1988), § 11, p. 37.‬‬ ‫(‪ (42‬تمثل االشتقاقات اللغوية بالنسبة إلى نيتشه صيغة نظر في فلسفة القيم‪ .‬انظر‪ :‬هذه الخاصة‪« :‬سيدقق نيتشه هذا التمشي‬ ‫واشتقاقيا»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫وسيستعمل هذا المنهج الجديد الذي سيكون لغو ًيا‬ ‫ً‬ ‫‪Robert Misrahi, Qu’est–ce que l’éthique?: L’Éthique et le bonheur(Paris: Armand Colin, 1997), p. 162.‬‬ ‫‪15‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫تشخيص اللغة هو إقراره أنه «اآلن فقط وبعد فوات األوان بكثير‪ ،‬ها قد شرع الناس في تحسب الخطأ‬ ‫الكبير الذي أشاعوه باعتقادهم في اللغة»((‪.(4‬‬ ‫وتبعا لتدبير النقد عبر فقه اللغة‪ ،‬سيتخذ نيتشه من‬ ‫• النقد بوصفه‬ ‫ً‬ ‫تشخيصا للعامات واألعراض‪ً .‬‬ ‫األلفاظ والمفاهيم خانة تفكير جديد‪ .‬إنه التفكير بالعامات واألعراض الدالة‪ .‬وهو ما يحيل إلى‬ ‫فلسفة تأويلية باتت تنظر في الوقائع والحوادث والظاهرات والقيم المسيجة‬ ‫(‪(44‬‬ ‫لها باألخاق أو‬ ‫السياسة أو الدين نظرة نقدية‪ .‬هو ذا ما يستلزم من التفكير النيتشي طرح مسألة المظهر(‪ ،(45‬والتي منها‬ ‫لعبة السطح والعمق‪ .‬فقراءة السطح وإن تلبس برمادية أصبحت كافية للقبول بالعمق أو إدانته‪ .‬غير‬ ‫نيتشيا هو الفاعل – اإلنسان‪ .‬ومعيارية ذلك صدقية التسميات بوصفها عامات‬ ‫أن المدان أو المقبول‬ ‫ً‬ ‫تخصيصا((‪ .(4‬وال يتعلق األمر‪ ،‬ههنا‪ ،‬بصدقية معرفية وحسب‪،‬‬ ‫تقول المسميات على نحوها المراد‬ ‫ً‬ ‫وإنما ً‬ ‫أيضا بصدقية إتيقية لحظة استثمار المرء للغة(‪ .(47‬فالعامات موضوع قراءة تأويلية‪ ،‬تستدعي‬ ‫وضعا للفرقان بين تفكير الخير والشر‪ ،‬من جهة‪ ،‬وتفكير ما راء الخير والشر‪،‬‬ ‫من فلسفة الجنيالوجيا‬ ‫ً‬ ‫من جهة أخرى(‪ .(48‬فالتفكير األول من جنس المعارف التي ال تقدر عالم العامات واألعراض في‬ ‫تشخيص عالمي المعرفة والقيم‪ .‬أما التفكير الثاني‪ ،‬فهو المنظورية الجديدة للعقل النقدي‪ ،‬ومنه قيمته‬ ‫‪(43) Nietzsche, Humain, trop humain1, § 11, p. 38.‬‬ ‫(‪ (44‬يمكن فقه اللغة أن يسهم مع نيتشه في تدقيق الروابط النفسية واألخاقية والفكرية بين القيمة الموصوفة وحاملها‪ .‬يقول نيتشه‪:‬‬ ‫«كيف أن ‘اللئيم’ و‘الوضيع’ و‘الشقي’ هي‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬ألفاظ لم تكف في أذن يونان عن التصادي في رنة واحدة بجرس‪ ،‬حيث‬ ‫«الخير والشرير»‪« ،‬الكريم وال ّلئيم»‪ ،‬المقالة األولى‪ ،‬في‪ :‬في جنيالوجيا األخالق‪،‬‬ ‫اللون الغالب هو ‘الشقي’»‪ ،‬انظر‪ :‬فريدريك نيتشه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ترجمة وتقديم فتحي المسكيني‪ ،‬مراجعة محمد محجوب‪ ،‬سلسلة ديوان الفلسفة (تونس‪ :‬المركز الوطني للترجمة‪ ،)2010 ،‬فقرة ‪،10‬‬ ‫ص ‪.(0‬‬ ‫(‪ (45‬في هذا السياق تمكن نيتشه‪ ،‬من منظور ما‪ ،‬من رد «العقل إلى فلسفة للمظهر»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Friedrich Nietzsche, Fragments posthumes: Automne 1885–automne 1887, Julien Hervier (trad.), tome. XII, in: Œuvres‬‬ ‫‪philosophiques complètes(Paris: Gallimard, 2007), § 2[141], p. 139.‬‬ ‫((‪ (4‬لعل ما يراه نيتشه في هذا المقام أن ظاهرة االختاق في اللغة‪ ،‬من جهة حمل الكلمة جزا ًفا على عوالم الحياة واألشياء‬ ‫والكيانات‪ ،‬لم تكن بريئة من الناحيتين‪ :‬النفسية واألخاقية‪ .‬انظر‪ :‬قوله‪« :‬ال تشي المفاهيم الفلسفية المختلفة بشيء من االعتباطية؛‬ ‫فهي ال تنبثق عن نشأة عفوية‪ ،‬بل تربو من روابط قرابة متبادلة»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Nietzsche, Par–delà, § 20, p. 37.‬‬ ‫(‪ (47‬يمكن الرجوع إلى هذا النص بغرض التدقيق‪« :‬ليس فقه اللغة واقعية ترتبط بالتأكيد فقط بمادية النص‪ ،]…[ ،‬وإنما هي‬ ‫باألحرى إتيقا النص‪ .‬واللغة هي األخاق الوحيدة التي لم يفلح نيتشه في إهاكها»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Eric Blondel, Nietzsche: Le Corps et la culture–La philosophie comme généalogie philologique, Coll. Philosophie‬‬ ‫‪d’aujourd’hui (Paris: Presses universitaires de France, 1986), p. 140.‬‬ ‫(‪ (48‬يترحل الفكر في نظر دولوز بين ردهات التاريخ وعوالمه عينها‪ .‬انظر هذا النص‪« :‬شروط النقد الحق واإلبداع الحق هي‬ ‫نفسها‪ ،‬فهي تقويض لصورة فكر ما‪ ،‬يفترض نفسه سل ًفا‪ ،‬وهي نشأة فعل التفكير داخل الفكر عينه»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫;‪Gilles Deleuze, Différence et répétition, 6ème éd. (Paris: Presses universitaires de France, 1989), p. 189‬‬ ‫انظر‪ً :‬‬ ‫مطالبا بدقة الفكر‪ ،‬يسعى بجدية كبيرة إلقامة السداة‬ ‫أيضا في االتجاه نفسه نص نيتشه‪« :‬في الماضي كان العقل‪ ،‬الذي لم يكن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تغيرت األشياء‪ ،‬أصبحت هذه الجدية التي تستعمل مع الرمزيات تعتبر دليا على مستوى منحط‬ ‫بين األشكال والرموز‪ ،‬أما اآلن فقد ّ‬ ‫من الثقافة»‪ ،‬انظر‪ :‬نيتشه‪ ،‬إنسان مفرط في إنسانيته‪ ،‬ج ‪ ،1‬فقرة (‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪16‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫في اآلن ذاته‪ .‬وعليه‪ ،‬تكون العامة استهال النقد لموضوعاته حتى يبلغ طور التفريق بين الجيد‬ ‫والرديء‪.‬‬ ‫(‪(49‬‬ ‫تبعا لقلب نماذج النظر‬ ‫• تحويل النظر في صنافة القيم التقليدية إلى «تيبولوجيا» جديدة‪ً ،‬‬ ‫التشخيصي‪ .‬وغرض التيبولوجيا الرئيس وضع الفرقان بين معادن الناس‪ ،‬على أساس ما يتوفرون‬ ‫عليه من إرادة وقوة‪ً ،‬‬ ‫كثيرا‪ .‬ومجمل المنظورية النيتشية في هذا المقام متمحور في تحرير‬ ‫قليا كان أو ً‬ ‫القول والكتابة‪ ،‬والنظر في القيم‪ .‬فثمة الرفيع من القيم‪ ،‬وثمة الوضيع منها‪ .‬لقد كشف نيتشه عن عزم‬ ‫على اإلثبات الحياتي للفكرة تما ًما واإلثبات الفكري للحياة لدى أهل القوى الفعالة‪ .‬وفي المقابل‪،‬‬ ‫قيم‬ ‫تبين كيف أن وه ًنا بالغً ا أصاب أهل القوى االرتكاسية لكونهم يدينون الحياة‪ ،‬وما اقتضت من ٍ‬ ‫مجلة لها‪ .‬ويعيب نيتشه على األخيرين كراهتهم لإلنسان والحياة والغرائز‪ ،‬وحتى العقل(‪ .(50‬وهكذا‪،‬‬ ‫تكون منهجية متابعة النقد الجنيالوجي المعيد تأسيس تيبولوجيا صراع اإلرادات المستقوي بعضها‬ ‫على بعض بالتمكن من القيم وحيازة استثمارها‪ ،‬إما رفعة وإما وضاعة‪ .‬إنها منهجية الفرز بين األفكار‪،‬‬ ‫ال على أساس القدامة أو الحداثة‪ ،‬وإنما على أساس اإلثراء واإلفقار‪ .‬وفي الرهان النيتشي يمكن‬ ‫تقديم نماذج القوى الفعالة‪ ،‬بوصفها خادمة للعقل الفلسفي(‪ .(51‬وال يتفعلن كل ذلك قو ًيا ومريدً ا‬ ‫باقتدار‪ ،‬إال إذا كان يستهدف االنتساب إلى عالم الحياة البهيجة‪ ،‬والسكنى بها موط ًنا للفكر والمعرفة‬ ‫ً‬ ‫والظاهرة‪ .‬هذا هو‬ ‫إجماال ملمح فلسفة القيم المتحررة بنقديتها(‪.(52‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬نقد خلقنة المعرفة الفلسفية‬ ‫«إن النوايا األخاق َّية (أو الـاأخاق َّية) شكلت في كل فلسفة بذرة الحياة األصلية التي انبثقت عنها‪ ،‬في‬ ‫كل مرة‪ ،‬النبتة برمتها»((‪.(5‬‬ ‫ما الذي يوجد في منظومة األخاق النسقية‪ ،‬وبوجهيها الشعبي والفلسفي‪ ،‬من قوة جعلت منها موجهة‪،‬‬ ‫إلى حد ما‪ ،‬المبحث المعرفي؟ أألنها تجود من مسارات مراكمة المعارف‪ ،‬أم ألنها تعزلها عن منفعة‬ ‫الحياة؟ ينكر نيتشه على األخاق تنويع ممكنات تعافي الحياة من عللها الكنسية والميتافيزيقية‪ .‬فقد‬ ‫(‪ (49‬دولوز‪ ،‬نيتشه والفلسفة‪ ،‬ص ‪ .97‬انظر‪ً :‬‬ ‫أيضا ص ‪ .100–95‬التيبولوجيا في سياق فلسفة القيم النقدية مع نيتشه هي كل ما‬ ‫ُيسمى‪ ،‬في مألوف التفكير المعاصر‪ ،‬بالنماذج التفسيرية‪ .‬ما دام التفسير ف ًنا من الفنون مع نيتشه‪ .‬ومنه فن القراءة‪.‬‬ ‫(‪ (50‬يمكن الرجوع إلى نص في هذا الغرض مما يسمى بالميزولوجيا‪ ،‬بوصفها ظاهرة ناشئة من نيتشه‪ ،‬ومفاده‪« :‬لقد وجدت عند‬ ‫كرها للعقل شكرتهم عليه؛ إذ أنه يكشف خبث وعيهم الفكري!»‪ ،‬انظر‪ :‬العلم الجذل‪ ،‬الكتاب األول‪ ،‬فقرة ‪ ،2‬ص ‪.(4‬‬ ‫ناس أتقياء ً‬ ‫(‪ (51‬انظر‪ :‬إسهام الفعل النقدي‪ ،‬بوصفه قرين تيبولوجيا نيتشية‪ ،‬كما طرحه هذا النص المنتزع‪« :‬النقد رد فعل للضغينة‪ ،‬بل التعبير‬ ‫النقدي عن نمط وجود فاعل‪ ،‬الهجوم وليس االنتقام‪ ،‬العدوانية الطبيعية الخاصة بطريقة وجود‪ ،‬الخبث اإللهي الذي ال يمكن أن‬ ‫نتخيل الكمال من دونه‪ .‬إن طريقة الوجود هذه هي تلك الخاصة بالفيلسوف‪ .‬ألنه يطرح على نفسه بالضبط استخدام العنصر‬ ‫التفاضلي كناقد ومبدع‪ ،‬وبالتالي مطرقة»‪ ،‬انظر‪ :‬دولوز‪ ،‬نيتشه والفلسفة‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫(‪ (52‬في االقتران الضروري بين التفكير والحياة‪ ،‬يمكن الرجوع إلى هذا المقطع‪« :‬إن إرادة القوة تكشف لنا نفسها داخل الحياة‪ ،‬من‬ ‫خال كل الظاهرات األخرى لذلك من الضروري أن تكون الخصائص األساسية للحياة حاضرة في كل الظاهرات»‪ ،‬انظر‪ :‬بيير‬ ‫مونتيبيلو‪ ،‬نيتشه وإرادة القوة‪ ،‬ترجمة وتقديم جمال مفرج (الجزائر‪ :‬منشورات االختاف‪ ،)2010 ،‬ص ‪.(9‬‬ ‫((‪ (5‬نيتشه‪ ،‬ما وراء الخير والشر‪ ،‬فقرة (‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪17‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫حبست المعرفة الحياة في تقليد معرفي ال يشرع لتوسيع دائرة المنظوريات المثرية لها(‪ .(54‬إن األصل‬ ‫في نقد أمر المعرفة هو النفي التام لما اعتقد فيه من قبل بعض الفاسفة وجو ًدا (ماديًا أو الماديًا)‬ ‫لألخاق‪ ،‬بوصفها ظاهرة‪ .‬ولقد ثبت نيتشه منظوريته في هذا السياق الفلسفي على النحو التالي‪:‬‬ ‫«ال توجد ظاهرات أخاقية‪ ،‬وإنما فقط تأويل أخاقي للظاهرات»(‪ .(55‬أيكون هذا النفي التام لمادية‬ ‫الظاهرات األخاقية تجذي ًرا لمسارات التفلسف الناشئة معه؟ ألسنا نجده كاشفًا‪ ،‬وفي أكثر من نص‬ ‫فلسفي‪ ،‬أن اإلنسان قد أسرف في خلقنة األفكار والمعارف والسلوكيات؟ ألم تبلغ خطورة الخلقنة حد‬ ‫الوقوع فلسفيًا في أخاقويات سقراطية‪ ،‬وأخرى كنطية‪ ،‬فحالت دون إجال «شغيلة الفلسفة» لألعالي‬ ‫واألشياء العظيمة؟‬ ‫هذا كلما تعلق األمر باألخاق الفلسفية الممجدة سلفًا‪ .‬أما إذا تعلق األمر باألخاق الشعبية‪ ،‬فإن‬ ‫التشخيص الجنيالوجي معه قد توصل إلى ما هو ثاو في التدبير البشري اليوم‪ ،‬من استرقاقِ األخاقِ‬ ‫الكنسية واليهودية لإلنسان عينه‪ .‬وهكذا‪ ،‬بلغت صورة اإلنسان المعاصر منتهى انحطاطها القيمي؛ لما‬ ‫فضا عما رسخت من صنيع تصعير الخد‬ ‫ً‬ ‫أودعته هذه األخاق من سلوك المسكنة والكذب والرياء‪.‬‬ ‫بسيكولوج ًيا متى انكشف عنها المستور‪ .‬ولعل مما يعكر صفو التفكير النقدي أن يغفل مريد التفلسف‬ ‫عن العودة إلى اإلنسان عينه‪ ،‬أي‪« :‬اإلنسان الحديث»((‪ .(5‬فلكم تفاخر هذا األخير بالمعرفة حين مكر‬ ‫بها‪ ،‬كما يرى نيتشه‪ .‬وتب ًعا لذلك‪ ،‬نلمح لديه شرطين نقديين الزمين إلمكان تعافي المعرفة؛ حتى تتصير‬ ‫مرحة‪.‬‬ ‫فاألول هو نزع نيتشه ستارة األخاق التي تحجب بها اإلنسان الذحل‪ .‬ليقول في الغرض‪« :‬من المفيد‬ ‫ج ًدا‪ ،‬بالنسبة إلى من يريد بلوغ الحكمة‪ ،‬أن يكون عقله قد انشغل بعض الوقت بصورة اإلنسان الشرير‬ ‫والفاسد بشكل جذري؛ إنها مزيفة‪ ،‬مثل تلك التي تقابلها؛ لكنها قد هيمنت خال أحقاب كثيرة‪،‬‬ ‫وجذورها قد انغرست وتشعبت في عالمنا‪ ،‬وفينا نحن»(‪ .(57‬فهل يعزى هذا المأخذ الفلسفي إلى ما أتاه‬ ‫م ّدعو الطيبة األخاقية من مفسدة‪ ،‬بشأن مسارات التفريد الذاتي‪ ،‬والتحرير التاريخي «للثقافة العالمة»؟‬ ‫لقد أصبح نيتشه يرى في انتهاج الفيلسوف المعاصر درب التمكن من هذا الجنس الثقافي خيا ًرا ممك ًنا‬ ‫بديا يحاول‬ ‫ً‬ ‫للحياتي‪ .‬ولعل «الحس التاريخي» هو مدبر الثقافة الفلسفية الحرة‪ .‬أتكون هذه األخيرة‬ ‫اإلنسان التواق إلى تعافيه أن يتخيره مسلكًا؟ وهل يشفع له ذلك‪ ،‬فا يقع تحت سياط القيم المنحطة‬ ‫لكونها مكو ًرا ميتافيزيقية؟ أليس العقل الكاسيكي مشرع ًنا لحبس المعرفة‪ ،‬كما األخاق في ذاتية غال ًبا‬ ‫ما تكون متعالية على الحياة؟‬ ‫(‪ (54‬من فضائل األخاق الرفيعة التأسيس لأللفة بين الخلقي والحياتي‪ .‬انظر‪ :‬هذا النص المنتزع‪« :‬إن األخاق‪ ،‬طالما ظلت‬ ‫تحاكم وتدين لغرض في ذاتها‪ ،‬وليس من وجهة نظر الحياة وبدافع احترام الحياة ومن منطلق ما تريده الحياة‪ ،‬هي خطأ خصوصي‬ ‫غير جدير بالشفقة إطا ًقا‪ ،‬حساسية خصوصية مستفحلة قد سببت مضار ال تحصى!»‪ ،‬انظر‪ :‬نيتشه‪« ،‬األخاق كشيء مناقض‬ ‫للطبيعة»‪ ،‬في‪ :‬غسق األوثان‪ ،‬فقرة (‪ ،‬ص ‪.59‬‬ ‫‪(55) Nietzsche, Par–delà, 4ème partie: Maximes et interludes, § 108, p. 86.‬‬ ‫‪(56) L’homme moderne.‬‬ ‫(‪ (57‬نيتشه‪ ،‬إنسان مفرط في إنسانيته‪ ،‬ج‪ ،1‬فقرة (‪ ،5‬ص ‪.51‬‬ ‫‪18‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫مياال مع نيتشه إلى اعتبار القوى‬ ‫أساسا إلى «أعراض االنحطاط»‪ً ،‬‬ ‫كان التشخيص الفلسفي المست ِند‬ ‫ً‬ ‫الحية هي األسانيد الجديدة‪ ،‬والمحررة للعقل الفلسفي من تيبولوجيا أخاقية‪ .‬ألم تكن هذه األخيرة‬ ‫مضعفة للحياة‪ ،‬ومفقرة للعزم القاصد معافاة الحيوات واألفكار؟ لقد وردت إشارة نيتشه الفلسفية‪،‬‬ ‫بوصفها انتصا ًرا للحياة الحائزة على قوتها وعاماتها الخاصة بأهلها المقدمين عليها‪ .‬أليس اإلعراض‬ ‫عن الحياة منتهى النكوصية التي قاومها نيتشه؟ لعلنا نلمس ههنا ما يشبه اإلجابة عنده في قوله‪:‬‬ ‫«ميدان التمثات األخاقية هذا كله يتسع باستمرار‪ ،‬أن هناك درجات دنيا أو عليا في مفاهيم الخير‬ ‫والشر‪ ،‬األخاقي والاأخاقي»(‪ .(58‬وعليه‪ ،‬فمن متممات صورة اإلنسان اللبيب أن يحسن في االتجاه‬ ‫المعاكس الفرز في مراتب الناس وأسئلتهم‪ .‬وأال تأخذه الشفقة بنفوسهم المريضة‪ ،‬وما رحبت من‬ ‫سافل األخاق‪.‬‬ ‫أما الشرط الثاني‪ ،‬فهو فن قراءة ستارة األخاق‪ ،‬بوصفها عامة على ارتكاسية حائلة دون ترقي القوى‬ ‫الفعالة؛ ألجل منظورية لحياة مرحة‪ .‬لكن‪ ،‬أتقوى إرادة االقتدار‪ ،‬إن استمسكت بالفنون العبقرية‬ ‫الجميلة‪ ،‬على عتق المعرفة من دائرة المعالجة األخاقية لها؟ إن الصفة اإلثباتية للقوى الفعالة هي‬ ‫عتبة تيبولوجيا جديدة‪ ،‬قادرة هذه المرة على أخذ صورة الترقي البشري خارج دائرة المعرفة عينها‪،‬‬ ‫وكلما أعرضت عن مفاعيل الحياة الحرة(‪ .(59‬وفي هذا كله جعل نيتشه من الفكرة الفلسفية رس ًما لصورة‬ ‫مستحدثة بشأن «اإلنسان المقبل»‪ .‬وسيحدد دولوز ملمحها على النحو التالي‪« :‬اإلنسان المتفوق هو‬ ‫الذي يستند إلى المعرفة‪ ،‬إنه يعتقد كشف المتاهة أو غابة المعرفة‪ .‬لكن المعرفة وحدها هي ستارة‬ ‫األخاقية؛ الخيط في المتاهة هو الخيط األخاقي»(‪ .((0‬لم ينظر إلى هذه األخاق متاهة؟‬ ‫ففي منطق التشخيص النيتشي بالعامة بيان لألقنعة الحاجبة العتصار المعارف المخلقنة للعظيم‬ ‫والحياتي واإلنساني والتفكري والقوة الفعالة‪ .‬فالكشف عن كوامن الاهوت الكنسي‪ ،‬والتمثات‬ ‫الميتافيزيقية‪ ،‬هو الذي سيكشف عن تناهي إنسان الخير والشر‪ .‬وفي كل هذا يكون القصور عن‬ ‫حبست فيها األخاق والمعرفة المتعالية‪.‬‬ ‫التصالح مع الحياة هو الحقيقة المخفية للمتاهة التي ُ‬ ‫يضيف دولوز‪ ،‬في السياق نفسه‪ ،‬بيان كيفية النظر إلى «األخاق‪ ،‬بوصفها متاهة‪ :‬هي ستارة‬ ‫المثال الزهدي والديني‪ .‬من المثال الزهدي إلى المثال األخاقي‪ ،‬من المثال األخاقي إلى مثال‬ ‫المعرفة‪ :‬إنها دائ ًما نفس النشأة تتعاقب‪ ،‬إنها لقتل الثور‪ ،‬يعني لسلب الحياة‪ ،‬لدوسها تحت مكيال‬ ‫ما‪ ،‬إلحالتها إلى قواها االرتكاسية»(‪ .((1‬وهكذا‪ ،‬فإن المجال األوسع لرصد ارتكاسية الفاسفة‪،‬‬ ‫وما أخفوا‪ ،‬هو هيمنة هاجس إرادتي الحقيقة والمعرفة‪ .‬وتقديمه على كل جيد محرر‪ .‬إنها إرادة‬ ‫ارتكاسية جاحدة للرفعة‪.‬‬ ‫(‪ (58‬المرجع نفسه‪.‬‬ ‫غالبا ما تكون أحكا ًما أخاقية ثاوية خلف المواقف من الحياة‪ .‬يمكن الرجوع إلى هذا ال ّنص‪« :‬تبين معارضة المعرفة للحياة‬ ‫(‪(59‬‬ ‫ً‬ ‫والعالم الحقيقي للعالم الظاهر عن داللتها األخاقية»‪ ،‬انظر‪. Simha, p. 66:‬‬ ‫‪(60) Gilles Deleuze, Critique et clinique, coll. Paradoxe (Paris: Éditions de Minuit, 2006), pp. 128, 127–129.‬‬ ‫‪(61) Ibid.‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫‪19‬‬ ‫رابعا‪ :‬معضلة الحقيقة وإرادتها‬ ‫ً‬ ‫«تكمن المتعة الحقيقية في التسلل إلى داخل حياة الحقيقة‪ ،‬محاصرتها وقتلها بدقة [‪ ]...‬الصراع من‬ ‫أجل الحقيقة مجرد ادعاء»(‪.((2‬‬ ‫مما ألفه معظم الفاسفة‪ ،‬قبل منتصف القرن التاسع عشر‪ ،‬هو عدم مؤاخذة فكرة الحقيقة وإرادتها‬ ‫بالنقد الازم‪ .‬بل لطالما اعتقد أن الفيلسوف ال يزال يتقدم في بناية نسقه الفلسفي؛ حتى يبلغ مطلق‬ ‫الحقيقة‪ .‬ومع نيتشه انثنى الخطاب الفلسفي إلى الحقيقة‪ ،‬يسائلها عن هذا الوعد الافلسفي الذي عهد‬ ‫أصا من جوهر‬ ‫ً‬ ‫به الفيلسوف إلى مسار تفكيره غرضً ا قصيًا؛ لذلك‪ ،‬صار التساؤل بشأن قيمة الحقيقة‬ ‫القول والكتابة الفلسفيين‪ .‬ومن هنا «ينبغي علينا‪ ،‬بالنتيجة‪ ،‬أن نبحث بأكثر دقة وضبط‪ ،‬عند نيتشه ما‬ ‫الحقيقة والمعرفة»((((‪ .‬والواقع أن ال فائدة من التمسك بفكرة أن الحقيقة التي ال ترد هي منتهى شغل‬ ‫وفضا عن ذلك ال فائدة ترجى من الحقيقة‪ ،‬بالنظر إلى ما تحتاجه الحياة من أسباب‬ ‫ً‬ ‫الفيلسوف‪.‬‬ ‫مختزال في بلوغ ما يسمى الحقيقة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫استقامة وعافية‪ .‬ههنا لم يعد رهان المعرفة اإلنسانية‬ ‫ومن ثمة تولّد في تاريخ فلسفة القيم النقدية هذا التساؤل مع نيتشه‪« :‬فما الحقيقة إذًا؟ إنها حشد‬ ‫متدافع من االستعارات والكنايات ومن تشبيهات األشياء باإلنسان‪ .‬إنها باختصار جملة من العاقات‬ ‫البشرية التي ُرفع من شأنها ونقلها وتنميقها شعريًا وباغ ًيا‪ ،‬وبدت‪ ،‬بعد طول استعمال‪ ،‬ملزمة لشعب ما‬ ‫وصارمة واستيطانية‪ :‬إن الحقائق أوهام نسينا أنها كذلك‪ .‬وهي استعارات فقدت قوتها الحسية من فرط‬ ‫استعمالها‪ .‬وهي قطع نقدية فقدت نقوشها فاعتبرت منذئذ معدنًا وليس بالمرة قط ًعا نقدية»(‪ .((4‬ربما‬ ‫تكون الحقيقة وع ًدا أفاطون ًيا قد حدد قدر التفكير الفلسفي الاحق‪ ،‬على نحو ما يلزم من التجريد‬ ‫والتسامي على عالم األرض‪ .‬فعاضده وعد كنسي بتزويق الحقيقة بما يلزم من المسكنة والخلقنة والتبرير‬ ‫الستخزاء اإلنسان نفسه ما أن تعذر عليه اإليفاء بموجبات نسبه إلى عالم الحياة المتعاظمة‪ ،‬وأسلوب‬ ‫(‪((5‬‬ ‫التفكير فيها‪ .‬لقد فضل كثير من الفاسفة العمل من داخل سلم الثنائيات ويختزلها «السيد نيتشه»‬ ‫في الزوج المفهومي الرئيس‪ :‬الخير والشر‪ .‬ومن ثمة حبس التفكير الفلسفي نفسه في مقوالت شبه‬ ‫ميتافيزيقية‪ ،‬من حيث المنتهى‪ :‬الممكن والمتعذر‪ ،‬والثابت والمتحول‪ ،‬والوجود والاوجود‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫وفي هذا السياق‪ ،‬عمل الفيلسوف على إعاء شأن ما أسماه بالحقيقة المكتشفة نسق ًيا وبإرادة الحقيقة‪.‬‬ ‫لقد حار نيتشه بشأن هذا التقليد المعرفي الذي يدين الكذب على نحو مطلق‪ ،‬ويبجل‪ ،‬في المقابل‪،‬‬ ‫الحقيقة بذات النحو‪ .‬بل كان كثير التساؤل عن منشأ المعيار الذي اعتُمد من الفلسفات الميتافيزيقية‪،‬‬ ‫والمشدد على القيمة الكبرى التي للحقيقة‪ ،‬مقارنة بالقيمة الدنيا التي للكذب‪ .‬فما الذي تفضل به‬ ‫األولى عن الثاني؟ أيكون وهم االعتقاد في أن مبدأ الهوية الموروث عن «المعلم األول» أرسطو‬ ‫مربيا‪ ،‬ترجمة قحطان جاسم (الجزائر‪ :‬منشورات االختاف؛ بيروت‪ :‬منشورات ضفاف؛ الرباط‪ :‬دار‬ ‫(‪ ((2‬فريدريك نيتشه‪ ،‬شوبنهاور ً‬ ‫األمان للنشر والتوزيع؛ بغداد‪ :‬دار أوما‪ ،)201( ،‬ص ‪.88–87‬‬ ‫(((( بلعقروز‪ ،‬المعرفة واالرتياب‪ ،‬ص (‪.17–1‬‬ ‫(‪ ((5‬نيتشه‪ ،‬العلم الجذل‪ ،‬التصدير‪ ،‬فقرة ‪ ،2‬ص ‪.7‬‬ ‫‪(64) Nietzsche, Le Livre, p. 123.‬‬ ‫‪20‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫ال يجيز النظر إلى الحقيقة والكذب إال مقولتين متعارضتين؟ كا‪ ،‬فالنقد المتجاسر مع نيتشه على‬ ‫كبرى أوثان تاريخ الفلسفة قد حاز ما يكفي من الجرأة االستفهامية ليحاور وثوقية «إرادة الحقيقة»‪،‬‬ ‫واشتغالها على النحو السالب للمعرفة التي ما انفكت مساراتها ترى في الحقيقة األثر – الكشف‬ ‫العقلي المحصن لفكرة النسق‪ .‬وتب ًعا لذلك‪ ،‬قرأ نيتشه إرادة الحقيقة وفقًا لصيغة من التهكم المعهود‬ ‫لديه‪ .‬ليقول في غرضها‪« :‬تعني إرادة الحقيقة جي ًدا درء إرادة الخديعة (منع «الكذب»)‪ .‬غير أن ما اعتبر‬ ‫خديعة هو شهادة الحواس وتجربة الجسد الحي‪ ،‬إنه العالم كما يستبين في رباط حي وهو الذي بكل‬ ‫تأكيد رباط مشوه للهيأة بما أن فعل الحياة يعني االحتيال والتشريد والتشبيه‪ .‬وستغدو الفلسفة حص ًرا‬ ‫هذه الكذبة التي منعتها المعرفة‪ .‬فمن يريد الحقيقي إنما هو يريد بد ًءا إدانة الحياة بوصفها خطأ والعالم‬ ‫بوصفه مظه ًرا»((((‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬تعقب نيتشه مسألة إرادة الحقيقة على نحو جنيالوجي ليتساءل الحقًا عن‬ ‫فضا عن عاقتها بفرية الزهد في الحياتي مقابل االستمساك بعروة المثل الزهدية كما رسختها‬ ‫ً‬ ‫قيمتها‪،‬‬ ‫األخاقيات األفاطونية – السقراطية من المؤسسة الكنسية‪.‬‬ ‫ولما كانت المثل العليا للميتافيزيقيين‪ ،‬ومن عاضدهم من الاهوتيين البائسين‪ ،‬منزهة عن كل مؤاخذة‬ ‫نقدية‪ ،‬فإنها قد حظيت بفائق التوقير من فاسفة هيمن عليهم هاجس «غريزة المعرفة»‪ ،‬فما عادوا على‬ ‫تحطيم أصنامهم بقادرين‪ .‬وفي المقابل‪ ،‬تكمن فضيلة النقد الفلسفي النيتشي في هذه الجسارة التي‬ ‫ستتعلق بها مهابة الفلسفة المعاصرة اليوم‪ .‬ونقصد بذلك رد الخواتم المغلقة عن الفلسفة لتظل مفتوحة‬ ‫متحررة بوصفها فك ًرا ح ًرا‪ .‬إذ ليس من الهين على الفلسفة أن تنثني إلى ذاتها مع نيتشه لمساءلة قيمة‬ ‫ما طال االعتقاد فيه‪ ،‬أي قيمة الحقيقة وما أخفت من شوائب أخاقية‪ .‬وفي هذا االتجاه يقول‪« :‬منذ‬ ‫اللحظة التي يُنفى فيها اإليمان بإله المثل األعلى النسكي‪ ،‬ثمة أيضً ا مشكل جديد‪ :‬إنه ذاك الذي يخص‬ ‫قيمة الحقيقة‪ – .‬إن إرادة الحقيقة إنما تحتاج إلى نقد – ولنعين بذلك مهمتنا الخاصة‪ ،‬إنه ينبغي مرة‬ ‫واحدة وعلى سبيل التجربة وضع إرادة الحقيقة موضع سؤال»(‪ .((7‬ومما يؤاخذه نيتشه على كتابات‬ ‫معظم الفاسفة هو تنزيلهم الحقيقة وموضعتها فيما يتعدى عوالم الصيرورة األنطولوجية والمنقلبات‬ ‫التاريخية واالستحاالت القيمية‪ .‬ذلك أننا نعيش في حضن هذه العوالم‪ ،‬فمنها شروط إمكانات حيواتنا‪.‬‬ ‫وكلما تصور فيلسوف ما الحقيقة بمعزل عن تلك العوالم اختلق منها وبها عال ًما موازيًا للعالم الذي فيه‬ ‫نوجد‪ ،‬وبه نكون كائنات حية‪ ،‬فحياتية‪ .‬فما عسى أن تكون عليه‪ ،‬إذًا إرادة الحقيقة لو تم نزع الحجب‬ ‫التي كانت تتلفع بها؟‬ ‫أخضع نيتشه إرادة الحقيقة إلى مصيرها المحتوم من آليات التظنن المعرفي ليكتشف ما تصيرت إليه‬ ‫تب ًعا لنقدها الجذري‪ .‬لقد شهدت منقلبات عدة‪ :‬فمنها استحالة المهابة إلى ما يسميه نيتشه ومن بعده‬ ‫فضا عن فقدانها لتسميتها الراسخة في التاريخ الفلسفي‪ .‬هكذا‪ ،‬أدى‬ ‫ً‬ ‫ميشال أنفري «خطأ شباب»(‪.((8‬‬ ‫داال دون مدلول‪ .‬وهو ما نتبينه من خال هذه الشذرة لنيتشه‪« :‬إرادة‬ ‫بها توثين الفاسفة لها إلى أن تصير ً‬ ‫‪(66) Simha, p. 66.‬‬ ‫(‪ ((7‬نيتشه‪ ،‬في جنيالوجيا‪ ،‬المقالة الثالثة‪ ،‬فقرة ‪ ،24‬ص ‪.202‬‬ ‫‪(68) Michel Onfray, La Sagesse tragique: Du bon usage de Nietzsche, Coll. Le livre de poche (Paris: LGF, 2006), p. 11.‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫‪21‬‬ ‫الحقيقة هذه‪‘ ،‬الحقيقة مهما كان الثمن’‪ ،‬هذيان الشباب هذا‪ ،‬بتنا نمقته‪ :‬إننا أشد ضراوة‪ ،‬أشد رصانة‪،‬‬ ‫حا‪ ،‬أشد كويًا بالنار‪ ،‬أشد عمقًا من كل هذا! ما عدنا نؤمن أن الحقيقة تبقى حقيقة إذا كشفنا‬ ‫أشد فر ً‬ ‫(‪((9‬‬ ‫سترها‪ :‬عشنا الكثير لنؤمن بهذا» ‪ .‬إنه لمن مستطاع الحس النقدي أن يقوى على اإلمساك مع نيتشه‬ ‫بالقوى والحاجيات التي تحكمت السنين الطوال في توجيه كثير من الفاسفة وجهة النهم في تحصيل‬ ‫المعرفة ومراكمتها‪ .‬ومن ثمة زعم المسك بالحقيقة وثناياها‪ .‬إذ اشتغلت العقانية المجردة على هذا‬ ‫الصراط حتى تصيرت عقلنة مجردة لما لن يرتضيه نيتشه مجر ًدا‪ .‬فمعه «لم تعد الحقيقة هنا مجرد‬ ‫فكرة أو مقولة معرفية بل تصبح تجربة الحياة ذاتها ومقولة أخاقية من حيث تكون األخاق الممارسة‬ ‫التقييمية إلرادة القوة»(‪.(70‬‬ ‫تكشف فعال التجريد الفلسفي المن ِتجة للحقيقة عما كامن فيها من عنص ٍر جوهراني‪ ،‬هو الميتافيزيقي‪،‬‬ ‫ثم يضاعف الكشف النقدي من أزمة وعد أخاقي كنطي‪ ،‬هو جور اآلمر القطعي‪ ،‬وقد تباهى بنصره‬ ‫حا هذا األمر‪:‬‬ ‫العقاني(‪ (71‬في مجال الفعل البشري‪ ،‬كما رسمه «العقل العملي»‪ .‬يقول نيتشه‪ ،‬موض ً‬ ‫«لكن ما يكره عليها [نسكية الفضيلة]‪ ،‬هذه الشاكلة من إرادة الحقيقة غير المشروطة‪ ،‬إنما هو اإليمان‬ ‫بال َمثَل األعلى النسكي ذاتِه‪ ،‬حتى وإن كان ذلك في شكل أمر قطعي ال يعي به‪ ،‬على المرء أال يغتر في‬ ‫هذا األمر‪ .‬إنه اإليمان بقيمة ميتافيزيقية‪ ،‬قيمة ما للحقيقة في ذاتها»(‪ .(72‬فما القيمة الفلسفية العتراض‬ ‫كهذا؟ يرد نيتشه الوضعية الخطرة التي صارت عليها الحقيقة تحت وطأة مفاعيل النقد الفلسفي معه‪،‬‬ ‫إلى ما في قطعيات الفلسفة الكنطية من عوز‪ ،‬مفاده جهل كنط بما عسى أن تكونه المرأة أوالً ‪ .‬وثان ًيا‪ ،‬ما‬ ‫في توكيده قطعية «اآلمر األخاقي» من وثوقية (دغمائية)‪ .‬فمن الجهة األولى‪ ،‬ال يعلم كنط ما في المرأة‬ ‫حا‪ .‬فكلتاهما تدثرت‬ ‫والحقيقة((‪ (7‬من شراكة في نقطة مخفية‪ ،‬امتنعت عن أن تتصير بساطًا أو مسط ً‬ ‫بما يحجب عن أهل التجريد والتسطيح بلوغ العمق‪ .‬وإذا كانت دغمائية كنط هي اإليمان المبالغ فيه‬ ‫باستقامة الفعل األخاقي‪ ،‬وفق معايير العقل‪ ،‬فإن دغمائية الحقيقة نفسها لتناظر دغمائية المرأة‪ :‬إما‬ ‫التملك المطلق‪ ،‬وإما الهروب الذي ال مرد له‪ .‬ففي تصدير كتابه ما وراء الخير والشر يستهل نيتشه‬ ‫ب أن الحقيقة امرأة‪ :‬أال يدفع ذلك إلى الظن بأن الفاسفة جمي ًعا‪ ،‬من حيث هم دغمائيون‪،‬‬ ‫بالقول‪َ « :‬ه ْ‬ ‫قد أساؤوا فهم النساء‪ ،‬وبأن ما بدا عليهم من عبوس رهيب وإلحاح غشيم في سعيهم إلى الحقيقة كان‬ ‫وسائل غير الئقة وغير لبقة‪ ،‬وبخاصة من أجل استمالة امرأة؟ المؤكد أنها لم تستمل‪ :‬فكل ضرب من‬ ‫(‪ ((9‬نيتشه‪ ،‬العلم الجذل‪ ،‬فقرة ‪ ،4‬ص ‪( 11‬بتصرف)‪.‬‬ ‫(‪ (70‬يوسف بن أحمد‪« ،‬منظورية الحقيقة عند نيتشه»‪ ،‬مجلة الفكر العربي المعاصر‪ ،‬العـدد ‪ ،)1998( 10(–102‬ص ‪.(2‬‬ ‫المسيحية‪.‬‬ ‫(‪ (71‬وحتى بعض أنفاسه‬ ‫ّ‬ ‫(‪ (72‬نيتشه‪ ،‬في جنيالوجيا‪ ،‬المقالة الثالثة‪ ،‬فقرة ‪ ،24‬ص ‪.201‬‬ ‫((‪ (7‬ليست القرينة بين الحقيقة والمرأة عند نيتشه مجرد كام كما يعتقد بعض القراء المتسرعين‪ .‬تمثل المرأة مفهو ًما في فلسفة‬ ‫ً‬ ‫مبدئيا بقراءة هذا النص وفهمه‪ .‬ومفاده‪« :‬المرأة إذن تهتم‬ ‫وإجماال يمكن االستعانة‬ ‫نيتشه‪ .‬وهذا تجديد في منظورية الحقيقة معه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قليا بالحقيقة‪ ،‬تؤمن بها أقل مما تؤمن بذاتها الخاصة‪ ،‬الحقيقة التي تعنيها‪ .‬هي الرجل الذي يعتقد أن خطابه حول المرأة أو حول‬ ‫الحقيقة مثار اهتمام تلك هي المسألة الطوبوغرافية التي كنت أخطط لها‪ ،‬وكانت تنسحب ً‬ ‫أيضا باستمرار‪ ،‬المسألة المتعلقة بما‬ ‫ال يمكن حسمه‪ ،‬والمتعلقة بالخصاء – المرأة التي تواريها‪ .‬فالرجل هو الذي يؤمن بحقيقة المرأة‪ ،‬المرأة – الحقيقة»‪ ،‬انظر‪ :‬جاك‬ ‫دريدا‪ ،‬المهماز‪ :‬أساليب نيتشه‪ ،‬ترجمة عزيز توما وإبراهيم محمود (الاذقية‪ :‬دار الحوار للنشر والتوزيع‪ ،)2010 ،‬ص ‪.104‬‬ ‫‪22‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫أصا! ألن ثمة متهكمين‬ ‫ً‬ ‫ضروب الدغمائية يقف أمامها اليوم بوجل وأسى‪ ،‬هذا إذا كان ال يزال يقف‬ ‫يزعمون أن الدغمائية سقطت‪ ،‬أن كل دغمائية تلفظ أنفاسها األخيرة»(‪ .(74‬تلك هي الدغمائية المدمجة‬ ‫السالبة للمعرفة عينها‪ ،‬فا تترقى إلى مرحة(‪.(75‬‬ ‫وفي سياق آخر‪ ،‬ينزل نيتشه هاجس إرادة الحقيقة ضمن سجل بسيكولوجي؛ ليجعل منها علة أشبه‬ ‫بالفصام لدى فاسفة ما كان لهم أن يتبينوه‪ ،‬بوصفه كذلك‪ ،‬لما أخذتهم حماسة «كشف» الحقيقة؛ ألن‬ ‫ألفة معها قد تقادم عهدها‪ ،‬حتى صارت من لوازم تشريف التفكير الفلسفي لنفسه((‪ .(7‬ولعل مرد الريبة‬ ‫التي قد تنشأ في خضم معمعة المساءالت الفلسفية بشأن الحقيقة ومن أرادها من أهل الميتافيزيقا‬ ‫السلبية‪ ،‬هو أن السكن الميتافيزيقي إلى الحقيقة ومنسجها ال يخلوان من إيمان ساذج بالبناء النسقي‬ ‫للحقيقة‪ .‬كما أن اإليمان بوجود غيرية تحكم حضانة الدغمائيين لتركة استبعاد الخطأ‪ .‬فلَ َك ْم اعتقد‬ ‫في التناقض بين الخطأ والحقيقة‪ .‬بل‪ ،‬لكم توهم معظم الفاسفة أن مسلك طلب الحقيقة يمر حت ًما‬ ‫عبر استبعاد «خصيمها»‪ ،‬أي الخطأ‪ .‬وأن درء هذا األخير قد يحمل الفيلسوف على التحرر من الشبهة‬ ‫الميتافيزيقية المترتبة على الوقوع فيه ولو على سبيل الغفلة والنسيان(‪ .(77‬يتساءل الميتافيزيقيون‪« :‬كيف‬ ‫يمكن لشيء ما أن يتولد عن ضده؟ وعلى سبيل المثال‪ ،‬أن تتولد الحقيقة عن الضال‪ ،‬أو إرادة الحقيقة‬ ‫عن إرادة الخداع؟»(‪ .(78‬لِ َم ال يقوى الفيلسوف على تحويل معرفته بالحقيقة إلى اعتراف منه بخطيئة‬ ‫معاداة الخطأ والخداع والكذب؟ أليست األزواج المفهومية متعاضدة ومتشاكلة‪ ،‬حد االنشباك‪ ،‬في‬ ‫وحدة لولبية‪ ،‬قد يتعذر علينا معها الوقوف عند الحدود الفاصلة حقًا بين تخومها؟‬ ‫هوس التناقض هو الذي يمنحنا فرصة التعرف «إلى الميتافيزيقيين في األزمنة جميعها‪ .‬ويحتل هذا‬ ‫النوع من التقييمات خلفية تدابيرهم المنطقية كلها‪ .‬وانطاقًا من إيمانهم هذا يجتهدون في علم أنهم‪،‬‬ ‫في ما يعمدونه‪ ،‬آخر األمر‪ ،‬في جو مهيب باسم الحقيقة‪ .‬إن إيمان الميتافيزيقيين األصلي هو اإليمان‬ ‫بتضاد القيم»(‪ .(79‬يرى نيتشه أن جور المنطق الذي فرض على كثير من الفاسفة اإليمان بمبدأ الهوية‬ ‫هو الذي دفع بهم إلى تزكية العقل بتجريداته‪ ،‬حد االنتهاء إلى نفي سمة المرح (الجذل) عن المعرفة‬ ‫واالحتفال بالحياة‪ .‬بل من ذا الذي حكم بما يكفي من البصيرة الفلسفية أن تضا ًدا مؤك ًدا هو ما يشق‬ ‫أوال في‬ ‫مساحة الفويرق بين مناقب الفلسفة ومتاعب الافلسفة‪ ...‬إلخ؟ أال «يجوز للمرء حقًا أن يشك ً‬ ‫(‪ (74‬نيتشه‪ ،‬ما وراء الخير والشر‪ ،‬تصدير‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫(‪ (75‬عناصر أخاقية وأخرى معرفية نسقية‪.‬‬ ‫توضيحا توصل إليه بحسه النقدي‪ .‬ومفاده أن معضلة الحقيقة في غير المعرفة المرحة تستحيل مع جهاز‬ ‫((‪ (7‬أتى نيتشه في الغرض‬ ‫ً‬ ‫النقد إلى مولدة ألسئلة كبرى‪ .‬انظر‪« :‬أوديب الجديد‪ :‬إرادة الحقيقة التي ستؤدي بنا ً‬ ‫أيضا إلى مجازفات عديدة‪ ،‬تلك الحقانية الشهيرة‬ ‫جميعا بإجال حتى اآلن‪ ،‬إرادة الحقيقة هذه كم من األسئلة قد طرحت علينا! يا لها من أسئلة عجيبة ورديئة‬ ‫التي تكلم عليها الفاسفة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تاريخا طويا‪ ،‬وإن بدا أنه ال يزال في أوله؛ فا عجب إذا ما انتهينا إلى االرتياب‪ ،‬إذا ما فقدنا صبرنا وتبرمنا‬ ‫ومريبة! إن لها بالفعل‬ ‫باألمر؟»‪ ،‬انظر‪ :‬نيتشه‪« ،‬في تحكيمات الفاسفة»‪ ،‬الفصل األول‪ ،‬في‪ :‬ما وراء الخير والشر‪ ،‬فقرة ‪ ،1‬ص ‪.21‬‬ ‫(‪ (77‬على غرار استحضار شيطان ديكارت أو ديك سقراط‪.‬‬ ‫(‪ (78‬نيتشه‪« ،‬في تحكيمات الفاسفة»‪ ،‬الفصل األول‪ ،‬في‪ :‬ما وراء الخير والشر‪ ،‬فقرة ‪ ،2‬ص ‪.22‬‬ ‫(‪ (79‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.2(–22‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫‪23‬‬ ‫ما إذا كان ثمة أضداد على اإلطاق»(‪ (80‬وفقًا لتعبير نيتشه؟ لكن‪ ،‬من أين للفاسفة هذه المقدرة على‬ ‫استيعاب هذا التاريخ المديد من الحقائق؟‬ ‫يدرج نيتشه في هذا المقام مفهو ًما كانت الفلسفة قد استخزته طيلة القرون المنصرمة‪ :‬النسيان‪ .‬إنه‬ ‫المفهوم –المتنفس المحرر للروح البشري‪ ،‬ما أن يحتبس عليه أفق التفكير‪ ،‬أو التحرر من خطايا‬ ‫التفكير الموجعة له‪ ،‬أو متعاليات المعرفة العقلية‪ .‬وفي هذا السياق يقول نيتشه‪« :‬لن يتوصل اإلنسان‬ ‫إلى االعتقاد بأنه يمتلك حقيقة من الدرجة التي أشرنا إليها للتو إال بفضل قدرته على النسيان؛ وإذا لم‬ ‫يشأ االكتفاء بالحقيقة في شكل القياس‪ ،‬أي االكتفاء بالقشور الخاوية فإنه سيظل دو ًما يستبدل أوها ًما‬ ‫بحقائق»(‪ .(81‬فهل يكمن حظ الحس النقدي من العافية في التحرر من حياء ميتافيزيقي لمضاعفة تأزيم‬ ‫إرادة الحقيقة ولنتملص‪ ،‬نحن بدورنا‪ ،‬مما فينا أحيانًا من سوء تقدير للجيد من األخطاء في المعارف؟‬ ‫أيكون من اللزوم التاريخي أال تتفكر الفلسفة من أين لها بهذا الوثن الذي سكنت إليه؟ ألم يحن للنقد‬ ‫أن يعهد إلى الفكر الحر بزلزلة أوثان الفاسفة ومنها الحقيقة؟ أيكون غنم الفلسفة المعاصرة من النقد‬ ‫النيتشي تشريح فيزيولوجيا األوهام الميتافيزيقية؟‬ ‫ال يكمن الدفع الحيوي للمطرقة النقدية النيتشية في ما أورثنا اليوم إياه تاريخ الفلسفة المعاصرة من تركة‬ ‫الميتافيزيقا المتأزمة‪ ،‬وإنما في ما سيصير عليه قدر التفكير الحقًا وقد تحلل من كل ارتهان للميتافيزيقا‪،‬‬ ‫سواء أكانت أفاطونية أو ديكارتية أو كنطية‪ .‬إذا كان ال بد من االعتراف بما لدينا اليوم من حاجة‬ ‫فلسفية‪ ،‬فإن هذه الحاجة هي ما كان يسميه نيتشه بـ «فلسفة ما وراء الخير والشر»‪ .‬هذا هو ما قد يشبع‬ ‫فينا نه ًما ميتافيزيق ًيا‪ ،‬أو دي ًنا فلسف ًيا في أن نرى األمور على غير ما عهدناها عليه من صور‪ .‬يقر نيتشه‬ ‫بأ ْن ال بد «للمرء أن ينظر من جهة هذا السؤال إلى الفلسفات األقدم كما األحدث عه ًدا‪ :‬إنها جمي ًعا‬ ‫ال تعي إلى أي مدى تحتاج أوالً إرادة الحقيقة ذاتها إلى تبرير‪ ،‬ههنا توجد ثغرة في كل فلسفة‪ ،‬من‬ ‫أين تأتى ذلك؟»(‪ .(82‬يكون معنى المأتى جينيالوجيا باللزوم الفلسفي المستخلص من مبحث النسابة‪.‬‬ ‫ويفيد ذلك أن إرادة الحقيقة‪ ،‬شأنها شأن مفاهيم الخير والشر وما تولد منهما‪ ،‬ينبغي أن يخضع لنبش‬ ‫وفرز ومتابعة جنيالوجيين‪.‬‬ ‫ومما أشاعه بعض الفاسفة‪ ،‬بشأن الحقيقة‪ ،‬أن مطلقًا ما يوجد هنا أو هناك‪ .‬وعلى الفكر أن يجهد في‬ ‫سبيل الكشف عنه‪ .‬لكن ما يراه نيتشه هو أن العوامل الحياتية ليست هي المحددة لهذا المسمى «مطلقًا»‬ ‫من الفاسفة‪ ،‬وبشيء من الزهو بالذات المبالغ فيه‪ ،‬فإن كان ثمة حقائق مفترضة‪ ،‬فا توجد خارج‬ ‫مفاعيل الحياة المتصيرة والمنقلبة والمستحيلة‪ .‬ألن الحقيقة((‪ (8‬هي ما ال يعترف به بعض الفاسفة‪ ،‬وإن‬ ‫تطلعوا إليها رهانًا معرف ًيا‪ ،‬ونالوه‪ .‬ولعلها تكون أيضً ا من جنس معارف معدن من الفاسفة‪ ،‬ما انفكوا‬ ‫(‪ (80‬المرجع نفسه‪ ،‬ص (‪.2‬‬ ‫(‪ (82‬نيتشه‪ ،‬في جنيالوجيا‪ ،‬المقالة الثالثة‪ ،‬فقرة ‪ ،24‬ص ‪.202‬‬ ‫‪(81) Nietzsche, Le Livre, p. 120.‬‬ ‫سافرا للحياة واإلنسان‪،‬‬ ‫تنكرا‬ ‫ً‬ ‫((‪ (8‬وكيفما تمثلناها فكرة أو مطلقًا أو إرادة أو افتراء في حق خصوم مبحث الحقيقة المعرفية‪ ،‬أو حتى ً‬ ‫أو ً‬ ‫رفضا لحق الفكر من مقام الفاسفة النسقيين بأرض المتعاليات المعرفية الكبرى من تاريخ الفلسفة‪.‬‬ ‫‪24‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫تحصيا‪ .‬فما إن تبدو لهم اإلشراقة األولى من ملمحها‪ ،‬حتى تأخذهم الحماسة النسقية‬ ‫ً‬ ‫متباهين بها‬ ‫إلى البحث عن ربض لهم في تاريخ الفلسفة‪ ،‬بُنا َة أنساق‪ ،‬أو ربما أسما ًء كبرى‪ ،‬ال هاجس لها سوى‬ ‫النأي بأنساقها عن كل مقاربة نقدية‪ ،‬وإجماالً ‪ ،‬عن كل تشغيل للحس النقدي المجيد لمهمة «التفلسف‬ ‫بضربات المطرقة»(‪ .(84‬وتب ًعا لذلك‪ ،‬يرى نيتشه‪ ،‬في المقابل‪ ،‬أ ْن ال وجود للحقيقة خارج دوائر الحياة‬ ‫واإلنسان والتفكير النقدي‪ ،‬فا تسمى حقيقة‪ ،‬ما لم تكن مشغولة بنماء الحياة‪ ،‬وبربو العظيم‪ ،‬وال‬ ‫مجا لها‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫يسمى حاقًا من لم يخدمها مري ًدا للحياة‪،‬‬ ‫يضع نيتشه الحقيقة التي افتتن الفاسفة بطلبها‪ ،‬وتوهموا بلوغها من حين إلى آخر موضع تساؤل‬ ‫فضا عن وثنيتها‪ ،‬فلقد افتتنوا‬ ‫ً‬ ‫نقدي‪ .‬وأصحاب األنساق هم أكثر الفاسفة حديثًا عن نسيج الحقيقة‪،‬‬ ‫(توه ًما) بالحقيقة الواحدة واألزلية‪ ،‬والحقيقة المتعالية‪ ،‬وفي ذاتها‪ ،‬أو حتى في بهائها المق َّنع(‪ .(85‬وفي‬ ‫الحصيلة‪ ،‬انصب النقد عند نيتشه على مغالبة التيار الجارف والهدام للفلسفة‪ ،‬بتوطين صنمية الحقيقة‬ ‫واالفتتان بها‪ .‬فا توجد‪ ،‬إذًا‪ ،‬حقيقة وقد تحنطت أجنحتها‪ ،‬وافترشت بساط الفلسفة‪ .‬إنما توجد‪ ،‬في‬ ‫نظره‪ ،‬محاوالت تأويل‪ ،‬معظمها متهافت((‪ .(8‬ألم يتوهم الفاسفة القول في حقيقة الوجود‪ ،‬وحقيقة‬ ‫العقل‪ ،‬وحقيقة الفن‪ .‬أليس «من طبيعة الكينونة أن تكون مؤولة‪ .‬وأن كل فرد يتأولها بطريقته الفردية‬ ‫انطاقًا من سلم القيم الخاص به؟»(‪ .(87‬أال يشكل مدار التأويل فضاء نشأة العديد من المنظوريات؟‬ ‫وكيف لها تأمين الرؤية التعددية للعالم‪ ،‬ولنسبية الحقائق‪ ،‬ولقيمة العقل نفسه‪ ،‬ضمن مقام الحياة؟‬ ‫خامسا‪ :‬تهافت المعرفة الميتافيزيقية وتأسيس معرفة مرحة‬ ‫ً‬ ‫«إذا أردنا أن نفسر كيف أقيمت أبعد المزاعم الميتافيزيقية لفيلسوف ما‪ ،‬فمن األحسن (ومن الحكمة)‬ ‫فعا أن نتساءل في البداية دائ ًما‪ :‬ما األخاق التي يُسعى (أو يسعى هو) إليها؟ ووفقًا لذلك ال أعتقد أن‬ ‫ً‬ ‫والدة الفلسفة هي ‘غريزة للمعرفة’‪ ،‬بل إن غريزة أخرى استعملت المعرفة (أو سوء المعرفة) استعمالها‬ ‫لألداة وحسب‪ ،‬هنا كما في غير محل»(‪.(88‬‬ ‫يمكن رد العنصر العدمي – السلبي في الحداثة األوروبية إلى ما اعتبرته هي نفسها‪« ،‬أفكا ًرا حديثة»‪،‬‬ ‫وكما لو كانت تجاوزت بحق تاريخًا من الجهالة فظي ًعا‪ .‬ولكم كانت غرائز المعرفة ن ّهاشة في عالم‬ ‫‪(84) Friedrich Nietzsche, Crépuscule des Idoles ou Comment philosopher à coups de marteau, avant–propos, trad. de‬‬ ‫‪l’allemand par Jean–Claude Hémery, in: Œuvres philosophiques complètes, tome. VIII (Paris: Gallimard, 2004), p. 57.‬‬ ‫(‪ (85‬في الوصل بين الحقيقة المتمذهبة بضد منطق العقل الحصيف‪ ،‬وتحفيز الحياتي على توطينها في النفس البشرية‪ ،‬يمكن‬ ‫الرجوع ً‬ ‫أيضا إلى هذا المقطع المنتزع‪« :‬وما االعتقاد في الحقيقة المطلقة والثابتة والكلية سواء في طبعتها الميتافيزيقية أو في طبعتها‬ ‫العلمية سوى خطأ ووهم مرتبط بالحاجة الحيوية إلنسان حي ال ينفك عن الرغبة في االستقواء»‪ ،‬انظر‪ :‬بلعقروز‪ ،‬المعرفة واالرتياب‪،‬‬ ‫ص ‪.17‬‬ ‫جمعا!»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫((‪ (8‬يمكن القول‪ ،‬إ ًذا إنه «ال توجد معرفة إال تأويلية‪ ،‬وال يوجد تأويل إال ً‬ ‫‪Jean Granier, Nietzsche, 5ème éd., Coll. Que sais–je? (Paris: Presses universitaires de France, 1994), p. 63.‬‬ ‫‪(87) Gisèle Souchon, Nietzsche: Généalogie de l’individu, Coll. Commentaires philosophiques (Paris: L’Harmattan,‬‬ ‫‪2003), pp. 15–16.‬‬ ‫(‪ (88‬نيتشه‪« ،‬في تحكيمات الفاسفة»‪ ،‬الفصل األول‪ ،‬في‪ :‬ما وراء الخير والشر‪ ،‬فقرة (‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪25‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫األفكار الحديثة(‪ .(89‬صحيح أن نيتشه يعترف بإنشاء رؤية جديدة للعالم‪ ،‬تولدت مع ما ُسمي «العقانية‬ ‫الحديثة»‪ ،‬وخاصة في صيغتيها الفرنسية واأللمانية‪ .‬غير أنها تظل رؤية الفكر المتحيز ضد ممكنات‬ ‫فضا عن عدم كياسة العقل الفلسفي المدبر للتاريخ المقبل للبشرية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫استعادة التاريخ الكوني لعافيته‪،‬‬ ‫خصوصا‪ ،‬ليفسد عنه يقينه بشأن معظم‬ ‫ومن ثمة‪ ،‬انثنى نيتشه إلى تاريخ الفلسفة عمو ًما‪ ،‬والغربي منه‬ ‫ً‬ ‫توجهاته الفلسفية الخجولة‪ ،‬من فرط عجزها عن التصالح مع الذوق الرفيع في المعرفة والفكر والحياة‬ ‫فضا عن ذلك‪ ،‬فقد اعتبره‬ ‫ً‬ ‫سوى‪ .‬وتب ًعا لذلك تصير «هذا ارتيابًا إزاء هذه األفكار الحديثة»(‪ (90‬مع نيتشه‪.‬‬ ‫«جحو ًدا‪ ،‬ال إيمان بكل ما شيد باألمس واليوم‪ ،‬يتخلله على األرجح شيء من التهكم والضجر لم يعد‬ ‫يطيق هذا السقط من أفاهيم مختلفة الحسب والنسب يعرضها في السوق»(‪ .(91‬وبالنتيجة‪ ،‬كان ال بد من‬ ‫توجيه هذا النقد الفلسفي مع نيتشه الوجهة التي تؤمن للمعرفة علة جذلها الراسخ في أفق المنظوريات‬ ‫المجلة لكل أشكال العظمة‪ ،‬بل لكل أشكال التفكير القابلة للترجمة في كتابة‪ ،‬تتطلع بدورها إلى أن‬ ‫تكون صونًا للعقل النقدي‪ ،‬ووفقًا لما تأمله منه كل الملل الشتراكها في النسب إلى العقل ومستطاعه‪.‬‬ ‫وال يتفعلن النقد‪ ،‬بوصفه تظن ًنا بالسائد‪ ،‬في الحكمتين‪ :‬الشعبية والفلسفية‪ ،‬إال متى خبر المتفلسف‬ ‫ما في عمق كيانه من عزم على تجاوز ذاته‪ ،‬وقد حبستها كبرى المقوالت الفلسفية‪ .‬لكن أليست هذه‬ ‫األخيرة مجرد «مثالية ميتافيزيقية» بلغة غرانيي(‪(92‬؟ ألم تكن أشبه بعقيدة التوحيد الميتافيزيقي للعقانية‬ ‫الحديثة برمتها؟ ألم يحول هاجس العالم الامتناهي المصاغ جدي ًدا‪ ،‬مع بعض الفاسفة الحديثين‪ ،‬هذه‬ ‫العقانية إلى ضرب من «التخريف الميتافيزيقي»((‪(9‬؟ فقد يكون طغيان فكرة الامتناهي هو ما حكم‬ ‫جنوح الفيلسوف العقاني الحديث إلى رسم تيبولوجيا جديدة لمفاهيم‪ :‬الفكرة‪ ،‬والعقل‪ ،‬والحقيقة‪،‬‬ ‫والعالم‪ .‬تلك هي كبرى المفاهيم التي نضّ دها بعض الفاسفة‪ ،‬فأخرجوها كشفًا عقانيًا ال عهد‬ ‫للفلسفة به لدى السابقين؛ لذا‪ ،‬راهن نيتشه على تكون مسارب فكرية هي بمنزلة البصيرة الفلسفية‪،‬‬ ‫وعمادها ما سماه «العقل الحصيف»‪ ،‬أو «العقل الحر»(‪ ،(94‬بوصفه شرطًا لبناء منظوريات جديدة‪،‬‬ ‫وليس للمفاهيم المصاغة سلفًا على نحو تجريدي‪ ،‬فحسب‪ ،‬وإنما أيضً ا لحيوات تلك المفاهيم عينها‪.‬‬ ‫ومنها العالم والحقيقة‪ ،‬وحتى الفكرة واإلنسان والغباوة والنباهة‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫وعلى غير سنة معظم األولين من الفاسفة‪ ،‬ما حدد نيتشه شروط مناعة النقد بالنظر إلى حسن تخير‬ ‫(‪ (89‬من منقلبات القيم مع المعرفة المرحة ما بينه هذا النص‪« :‬إن النقد الجذري لغرائز المعرفة عند نيتشه واستبدالها بغرائز الحياة‬ ‫دائما إلى شروطها الوجودية ورهاناتها‬ ‫وإحال الحقيقة الفنية محل إرادة الحقيقة اقتضت منه مراجعة إرادة وقيمة المعرفة باإلحالة ً‬ ‫المصلحية المنتجة لها»‪ ،‬انظر‪ :‬بلعقروز‪ ،‬المعرفة واالرتياب‪ ،‬ص (‪.17–1‬‬ ‫(‪ (90‬نيتشه‪« ،‬في تحكيمات الفاسفة»‪ ،‬الفصل األول‪ ،‬في‪ :‬ما وراء الخير والشر‪ ،‬فقرة ‪ ،10‬ص ‪.(2‬‬ ‫(‪ (91‬المرجع نفسه‪.‬‬ ‫(‪ (92‬يمكن الرجوع إلى ما بينه جان غرانيي من عاقة تصالب بين تلك المقوالت العقانية وهذه «المثالية الميتافيزيقية بما هي فعاً‬ ‫الفلسفة العفوية لوعي غافل عن تجذره في كلية الذات العضوية‪ ،‬تتوجه في تشريعية مطلقة وتعتقد أنها ماهرة في استنتاج صفات‬ ‫أساسا نسبية»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫الوجود من خال مقوالتها الخاصة‪ ،‬دون أن تفهم أنها ال تفعل بذلك سوى التشريع في ذات متخيلة لقيم‬ ‫ً‬ ‫‪Granier, Le problème, p. 128.‬‬ ‫((‪ (9‬المرجع نفسه‪.‬‬ ‫(‪ (94‬ولهما المعنى نفسه‪ ،‬والفرق نفسه ً‬ ‫أيضا‪ ،‬عن العقل الكاسيكي‪ ،‬وخاصة في ملمحه الديكارتي‪.‬‬ ‫‪26‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫موضوع التفكير‪ ،‬أو إلى حد ماهيته بتعريف‪ ،‬وإنما توجه إلى الفاعل عينه‪ ،‬أي «الفيلسوف المقبل»(‪.(95‬‬ ‫فاعا بأنظمة المعارف‪ ،‬الناجز منها والمنتظر؟ أيكون لزا ًما‬ ‫ً‬ ‫فما عسى أن يكون الفيلسوف – الناقد‬ ‫وأي أخرى أقدر على تجاوز‬ ‫عليه العمل على تهافت ما تم تقريظه من معارف‪ ،‬فاستبدالها بأخرى؟ ّ‬ ‫محاور المعرفة الكاسيكية لتطول مغاور التفكير المعاصر‪ ،‬وتؤسس لتهافت المعرفة المستغلقة بع ُد‬ ‫عن عتبات الحياة؟‬ ‫ههنا يطالعنا نيتشه بمفهوم المعرفة المرحة الذي ينسب إليه حقًا اشتقاقه فإدراجه في مدارات التفكير‬ ‫الحر لديه‪ .‬ويرد هذا اإلبداع المفهومي إلى االعتراضات النقدية على ما في معهود المعارف الفلسفية من‬ ‫تجريدات‪ ،‬فإعراض عن الحياة وإرادتها‪ .‬فلطالما أنس معظم الفاسفة‪ ،‬قبل نيتشه‪ ،‬في أنفسهم المقدرة‬ ‫على التناظر‪ ،‬أو حتى التنافس؛ تقد ًما في سلم العمارة الفلسفية‪ .‬ولقد كان هذا من منظورية «فلسفة‬ ‫الماوراء» ضربًا من التفكير الفلسفي المدبر على سبيل العلو البسيكولوجي والنظري‪ ،‬وحتى الصوفي‬ ‫أحيانًا‪ ،‬بالفكرة الذاتية لإلنسان‪ ،‬كما للحقيقة الفلسفية المنشأ الديكارتي نفسه((‪ .(9‬إنَّه علو باإلنسان عينه‬ ‫على منابته في األرض‪ ،‬وما حبسوه فيه من خشاشها(‪ .(97‬وهو لعمري تصريف ميتافيزيقي جد متفقه في‬ ‫اللغة‪ .‬إذ قال اإلنسان «ذاتا متعالية»‪ ،‬ولم يقو على موضعته ضمن تيبولوجيا «لعبة القوى» المكتشفة‬ ‫الحقًا مع إرادة االقتدار‪ .‬فقد عهدت نظرية هذه األخيرة إلى نفسها بتنزيل اإلنسان عبر بيان ما غفل عنه‬ ‫فاعا في «التاريخ النقدي»‪ ،‬وما احتوى‪ .‬وعليه‪ ،‬نشأت في‬ ‫ً‬ ‫الميتافيزيقيون‪ ،‬من ترجيح ألسباب تعظيمه‬ ‫مقابل التعلق بأكثر العوالم تجري ًدا تلك المعرفة المرحة مع نيتشه‪ ،‬كغضبة ثائرة على ما في نسيان الحياة من‬ ‫كراهة لها‪ .‬ولما تكشف على ما في معارف معظم الفاسفة من عوز وعدم كفاية‪ ،‬صار مؤك ًدا أن «المعرف َة‬ ‫المرحة ضرورية تما ًما بالنسبة إلى من يفكر مثلي ومن يريد مثلي»(‪ .(98‬فما عسى أن يكون للنقد من خطورة‬ ‫منذرة بأفول المعارف الجاهلة بحسب نيتشه؟ وما الذي يوجد في اإلنسان المهوس بمراكمة المعرفة من‬ ‫أمر معيب؟ أليس اإلنسان هو عينه من يُضعف ممكنات النقد فشرائط المعرفة المرحة؟‬ ‫;‪(95) Le philosophe de l’avenir‬‬ ‫والذي تجاوز سؤال‪ :‬الماهية؟ ‪ ?Le Qu‘est–ce que /‬بسؤال‪ :‬الـمن؟ ‪ .Le Qui? /‬إنه معدن فيلسوف ناشئ من النقد الجنيالوجي‬ ‫للرماديات الشبيهة بالهيروغليفيات‪ .‬والذي يقول نيتشه في شأنه‪« :‬من يحسن تنفس هواء كتاباتي يعلم أنه هواء األعالي‪ ،‬هواء منعش‪.‬‬ ‫وعليه أن يكون َق ْد ُق َّد ليحياه‪ ،‬فعسى أن يكون الخطر ً‬ ‫هائا لو أخذ محياه ببرود‪ .‬إذ الجليد قريب والوحدة مرعبة‪ .‬غير أن األشياء‬ ‫ٍ‬ ‫بهدوء! وكما لو كنا نتنفس بحرية! وكم سنتحسس هنا من األشياء واقعة تحت طائلة ذواتنا!‬ ‫تستحم في هذا الهواء تحت إشراقة النور‬ ‫طوعا وسط الثلوج وفوق الذرى‪ ،‬والبحث عن كل غريب وموضع تساؤل في‬ ‫وتتمثل الفلسفة كما فهمتها دو ًما وعشتها في الحياة ً‬ ‫جانبا»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫الوجود‪ ،‬وكل ما طرحته األخاق ً‬ ‫‪Nietzsche, Crépuscule, avant–propos, § 3, p. 240.‬‬ ‫((‪ (9‬تلك هي مجمل المفاهيم المشتقة من العقانية الميتافيزيقية الديكارتية‪ ،‬والنسب بالمسارات النفسية الخاضعة لسيادة العقل‬ ‫نفسها‪ ،‬وقد ألجمها‪ .‬انظر‪ :‬في هذا المقام اضطرار الفكر إلى الخلط بين المفاهيم‪ ،‬على الرغم مما بينها من تناسب‪ ،‬وذلك في هذا‬ ‫المنتزع‪« :‬أما بالنسبة إلى مفهوم ّ‬ ‫الذات فإنه يترتب مباشرة‪ ،‬بحسب نيتشه‪ ،‬من اإلدراج المثنى لمبدأي السببية والجوهر في سلسلة‬ ‫الظواهر البسيكولوجية»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Granier, Le Problème, p. 133.‬‬ ‫(‪ (97‬كمقوالت الجوهر والسبب والشيطان الماكر والمونادة‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫‪(98) Friedrich Nietzsche, Fragments posthumes: Été 1882–printemps 1884, Anne–Sophie Astrup et Marc De Launay‬‬ ‫‪(trad.), in: Œuvres philosophiques complètes, tome. IX (Paris: Gallimard, 1997), § 17 [88], p. 587.‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫‪27‬‬ ‫سادسا‪ :‬من ينتج المعرفة المرحة؟‬ ‫ً‬ ‫«أما من كان شبي ًها بي في علو إرادته فسيحظى بالنشوة الحقيقية للمعرفة؛ ذلك أنني قادم من أعال لم‬ ‫يحلق فوقها طائر‪ ،‬وعرفت أعماقًا لم تجرؤ قدم على التيه في أغوارها»(‪.(99‬‬ ‫من آثار منقلبات الخطاب الفلسفي مع نيتشه أنه تحرر من االرتهان الكاسيكي‪ ،‬بما استهله جل‬ ‫الفاسفة من الكتابة‪ ،‬ومن المعرفة بسؤال الماهية‪ ،‬ليستبدله بسؤال معدن اإلنسان‪« :‬من؟»‪ .‬وفي قراءة‬ ‫جيل دولوز فـ «إن السؤال‪‘ :‬من؟’ يعني وفقًا لنيتشه ما يلي‪ :‬إذا نظرنا إلى شيء ما‪ ،‬ما القوى التي‬ ‫تستولي عليه‪ ،‬ما اإلرادة التي تمتلكه تعبر عن نفسها فيه‪ ،‬تتجلى فيه‪ ،‬ال بل تختفي فيه؟ ال يجري‬ ‫الوصول بنا إلى الجوهر إال عبر السؤال‪ :‬من؟ ألن الجوهر هو فقط معنى الشيء وقيمته؛ تحدد الجوهر‬ ‫القوى ذات القرابة مع الشيء‪ ،‬واإلرادة ذات القرابة مع هذه القوى»(‪ .(100‬إن من ينتج هذه المعرفة‬ ‫هو الرجل – الفيلسوف الذي يقوى على مساءلة «المعنى»(‪ ،(101‬وتحريره من نزعة التعصب للحقيقة‪،‬‬ ‫والتمذهب بالمعرفة المسرفة في جحودها للمحسوس‪ ،‬والذي اعتقد تب ًعا لذلك أنه يحكم الصناعة‬ ‫الفلسفية‪ .‬وعلى النقيض من ذلك‪ ،‬يعترف هذا الرجل – الجذل للحياة مصد ًرا وحي ًدا لكل قيمة(‪.(102‬‬ ‫وبما أن األمر يتعلق باالقتدار على صناعة الفلسفة‪ ،‬فإن من ينتج هذه الصناعة هو المجاهد ألجل‬ ‫استقالية الفيلسوف إزاء كل تجاذبات النفس البشرية‪ ،‬والترقي عل ًّوا وترف ًعا نحو التسامي على ضغائن‬ ‫اليومي‪ ،‬وما احتسب فيها بعضهم من مغانم‪ .‬ومن أجل الرفعة «هكذا تكلمت نقاوتي في تلك اللحظة‬ ‫السعيدة‪‘ :‬لتكن مقدسة كل الكائنات في نظري’‪‘ .‬لتكن كل األيام مقدسة في نظري’ – هكذا تكلمت‬ ‫نقاوة شبابي ذات يوم‪ :‬كام حكمة مرحة حقا!»((‪ .(10‬يعود البحث في المعرفة غير المرحة‪ ،‬والحرص‬ ‫المعهود لدى بعض الفاسفة على مراكمتها إلى توهمهم أن حيازتهم للعقل‪ ،‬على النحو الذي قالوه‬ ‫فيه‪ ،‬وكتبوه به في مآثر نصوصهم‪ ،‬إنما هي منتهى الحكمة الفلسفية‪ .‬والواقع‪ ،‬فيما يرى نيتشه‪ ،‬كانت‬ ‫مجرد غفلة منهم عن االتجاه القويم ألحياز تشغيل العقل البشري‪ .‬لذلك‪ ،‬فما اعتقده هؤالء من عقانية‬ ‫ال يغدو‪ ،‬في نظر نيتشه‪ ،‬سوى العقانية استمدت قيمتها من تواؤمها‪ ،‬وتطلعات فلسفات مغشوشة‬ ‫بأنفاس مسيحية‪ ،‬وأخرى أفاطونية‪ .‬فالعقانية التي أودعها هؤالء الفاسفة في ما أنتجوه من معرفة (في‬ ‫معظمها تأملية) هي‪ ،‬في نظر نيتشه‪ ،‬جلبة فكر ضل سبيله إلى عتبة الحياة‪.‬‬ ‫كتبا جيدة»‪ ،‬في‪ :‬هذا هو اإلنسان‪ ،‬فقرة (‪ ،‬ص ‪.71‬‬ ‫(‪ (99‬نيتشه‪« ،‬ما الذي يجعلني أكتب ً‬ ‫(‪ (100‬دولوز‪ ،‬نيتشه والفلسفة‪ ،‬ص ‪.9‬‬ ‫(‪ (101‬تقتل العدمية السالبة‪ ،‬في نظر نيتشه‪ ،‬بيان المعنى وتجليه‪ .‬انظر‪ :‬هذا المرجع‪« :‬هذا الغياب للمعنى‪ ،‬العدمية‪ ،‬هو الذي يحرك‬ ‫حظيرته للبحث عن معنى أو عدة معان جديدة‪ ،‬عن ثقافة جديدة‪ ،‬عن فاسفة جدد»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Blondel, Nietzsche, p. 48.‬‬ ‫خاصا من الناس هو الجدير بتشريع فلسفة ما وراء الخير والشر لفعله وحضوره وتفكيره‪ .‬يمكن الرجوع‬ ‫(‪ (102‬اعتبر نيتشه أن معدنًا ً‬ ‫إلى هذا النص‪« :‬اإلنسان الجيد‪ ،‬بما هو اإلنسان غير المؤذي‪ ،‬اإلنسان الذي يجهزنا من دون توقف إلبداع فضائل جديدة لكي‬ ‫نستحق أن نعيش»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Granier, Le problème, p. 189.‬‬ ‫((‪ (10‬نيتشه‪« ،‬نشيد القبور»‪ ،‬في‪ :‬هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.220‬‬ ‫‪28‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫إنه لمن أخطاء بعض الفاسفة اعتبار المعرفة في تناقض مع الحياة‪ ،‬أو هي أخرى تؤتى من خارج‬ ‫صروفها‪ .‬وقد ال تعني بالضرورة تصاريف المعرفة شأن الحياة‪ .‬لقد اعتبروا جال المعرفة في نظرانيتها‪.‬‬ ‫خالصا من شؤون‬ ‫صحيح أن التأسيس الفلسفي ال يكون إال نظريًا بالعقل‪ .‬غير أن اعتبار المعرفة شأنًا‬ ‫ً‬ ‫العقل المجرد‪ ،‬هو محدودية العقل معهم‪ .‬فكم ستحتاج المعرفة المرحة إلى النسيان للتحاور مع‬ ‫«المقبل» من فضاءات التفكير ومسالكها؟ لعله يكون من اللزوم على الفيلسوف أن يكون األقدر على‬ ‫جعل مشاعر الضغينة النفسية متهافتة لتأمين تعافي الذاكرة الفلسفية‪ ،‬ولو بتعاطي ملكة النسيان لهجران‬ ‫عالم األشياء وتعليقه ولو إلى حين‪ .‬وليكن هذا من لوازم تحرر الروح الفلسفي‪ ،‬فتحرر اإلنسان ذاته‪.‬‬ ‫وليكن من مزايا ذلك أن «‘الفكر الحر’ هو الريبي الكبير الذي يحاذر كل ما وضع فيه اإلنسان حتى‬ ‫ذاك أكبر قسط من ثقته»(‪ .(104‬فمنتهى الفكر الحر هو التمتع جمال ًيا بكل ما يتبع توكيد الحياة وفهمها‪،‬‬ ‫على نحو ما ينبغي أن يكون عليه اإلثبات المتحلل من كل مشاعر الضغينة‪ .‬أما مرح الفكر الحر‪ ،‬فهو‬ ‫تخليد العظيم من اآلثار‪ ،‬حتى لو بطُنت من شديد أوجاع العقل الكاسيكي ما بطنت‪ .‬ولعل هذا الفكر‬ ‫يسر لبعض الفاسفة في القرن العشرين معالجة مسألة تناهي اإلنسان‪ ،‬وتشخيصه‪ ،‬في أفقِ‬ ‫هو الذي ّ‬ ‫زمنيته الراهنة‪.‬‬ ‫ويشي هذا األفق بما في كتابات نيتشه النقدية من رسوخ القدم في عالم التعددية‪ .‬وما باتت تحتاجه من‬ ‫أساسا الكتابة في فضاء‬ ‫نفاذ العقل النقدي إلى المسكوت عنه ولم يُقل عادة‪ .‬فما الذي توافرت عليه‬ ‫ً‬ ‫المعرفة المرحة؟ إنها كتابة العتبات واالستهال لتيبولوجيا من القيم المتعافية من قدامة ميتافيزيقاها‪ .‬هو‬ ‫ذا التقليد المعرفي الذي ترسخ‪ ،‬وهو مليء «باستعارات وتشبيهات رائعة يبدو أن داللتها تزداد‪ ،‬بطريقة‬ ‫غامضة‪ ،‬كلما أمعن المرء تفكيره فيها»(‪ .(105‬وربما كان دافع الفكر عند نيتشه إلى إعادة إنتاج المساءلة‬ ‫الفلسفية بشأن الفاسفة‪ ،‬كما العوام‪ ،‬هو‪ :‬ما السر في حمل التشبيهات جزافًا على غير حواملها‪ .‬إن‬ ‫«لعبة السطح والعمق» الزرادشتية هي ما ثبت في عالم التفكير الفلسفي المعاصر‪ .‬ومن هنا تم الكشف‬ ‫عما لم يعد تحتمله عوالم الحياة واألشياء والناس من كثرة تشبيهات‪ .‬إنها تشبيهات كاشفة عما في‬ ‫العقل الفلسفي من أصنام – ُمثل‪.‬‬ ‫ال بد‪ ،‬إذًا‪ ،‬من جنس مخصوص من الرجال العظام((‪(10‬؛ ليعهد إليهم تاريخ الفلسفة بإعادة األلفة القديمة‪،‬‬ ‫بين ما يحياه الفيلسوف‪ ،‬وما ينتجه من معرفة‪ ،‬فالرجال المتحررون من كراهة العقل المجرد سيكونون‬ ‫(‪ (104‬أويغن فنك‪ ،‬فلسفة نيتشه‪ ،‬ترجمة وتحقيق إلياس بديوي (دمشق‪ :‬منشورات وزارة الثقافة واإلرشاد القومي‪ ،)1974 ،‬ص ‪.(1‬‬ ‫(‪ (105‬هنري إيكن‪ ،‬عصر اإليديولوجيا‪ ،‬ترجمة فؤاد زكريا (القاهرة‪ :‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،)19(( ،‬ص ‪.252–251‬‬ ‫((‪ (10‬للتوسع في هذه الفكرة‪ ،‬يمكن الرجوع إلى هذا النص‪« :‬هذا مع العلم أنه ليس بإمكان أحد أن يدعي إيمانًا أكثر ثقة في‬ ‫الوصول إلى غايته‪ ،‬إال الفيلسوف تحديدً ا – ألنه ال يعرف إطا ًقا أين يقيم اللهم إال على األجنحة المنتشرة لكل العصور‪ .‬إن عدم‬ ‫األخذ بعين االعتبار الظرف واللحظة الراهنين إنما يعود إلى جوهر المزاج الفلسفي الكبير‪ .‬إنه يملك الحقيقة»‪ ،‬انظر‪ :‬فريدريك‬ ‫نيتشه‪ ،‬الفلسفة في العصر المأساوي اإلغريقي‪ ،‬ترجمة سهيل القش‪ ،‬تقديم ميشال فوكو‪ ،‬ط ‪( 2‬بيروت‪ :‬المؤسسة الجامعية للدراسات‬ ‫والنشر والتوزيع‪ ،)198( ،‬ص ‪.(4‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫‪29‬‬ ‫معدنًا جدي ًدا من أهل الفلسفة(‪ .(107‬والذين نأمل معهم أن «تصير المعرفة جز ًءا ال يتجزأ من الحياة نفسها‬ ‫بوصفها حياة مقدرة ال تتوقف عن النمو إلى اليوم الذي تنتهي المعارف واألخطاء القديمة األساسية‬ ‫بأن تتصادما م ًعا‪ ،‬الواحدة ضد األخرى بوصفهما حياة‪ ،‬بوصفهما مقدرة في الرجل المفكر نفسه»(‪.(108‬‬ ‫ولعله من لوازم ذلك إثبات أمرين‪ :‬أولهما أن يستهين الفكر الحر باليقينيات لخطورتها على الحقيقة‬ ‫أكثر من الكذب والخطأ‪ .‬ألن «اليقينيات سجون»(‪ ،(109‬كما يرى نيتشه‪ .‬وثانيهما أن يتحرر(‪ (110‬العقل‬ ‫الفلسفي‪ ،‬وقد تقوم بالنقد الحر و«األسلوب الكبير»(‪ ،(111‬من بلِية الكسل‪ ،‬واإلعراض عن مواجهة كبرى‬ ‫أسئلة الناس‪ .‬ولقد حددت صنافة معادن اإلنسان في فلسفة نيتشه األقوياء أهل هذه العهدة – المهمة‬ ‫المقبلة(‪.(112‬‬ ‫خاتمة‬ ‫«أعاد نيتشه الذي بدا أنه أدرك أن عليه تحريك قطعه األخرى‪ ،‬انتباهه إلى وسط لوحة الشطرنج‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫علي ألقابًا كثيرة‪ ،‬فيلسوف‪ ،‬عالم نفساني‪ ،‬وثني‪ ،‬داعية‪ ،‬مسيح دجال‪ .‬حتى أنهم أطلقوا‬ ‫‘لقد أطلقوا ّ‬ ‫علي ألقابًا مستهجنة‪ .‬لكني‪ ،‬أفضل أن أطلق على نفسي لقب عالم‪ ،‬ألن أساس طريقتي الفلسفية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جا صار ًما يتسم بالشك‪ ،‬وأنا شكوك اآلن‬ ‫بوصفها طريقة علمية‪ ،‬تكمن في عدم التصديق‪ .‬إني أتبع نه ً‬ ‫ال أستطيع قبول توصيتك للكشف عن النفس استنا ًدا إلى سلطة طبية’»((‪.(11‬‬ ‫يَ ْمثل الفيلسوف اليوم أمام حبس مدارات التناهي لما تطلَّع إليه بعض أسافه‪ .‬فلقد أفضى النظراني‬ ‫والتأملي والتجريدي إلى ما أفضوا إليه بمفعول «التفلسف بضربات مطرقة»‪ ،‬فما عاد للفصل بين سعي‬ ‫(‪ (107‬هذا واحد مما كان يرجوه نيتشه للفلسفة في مقبل أيامها‪ ،‬ومفاد نصه‪« :‬ربما! لكن من يريد أن يهتم بمثل هذه الـربما الخطرة؟‬ ‫من أجل ذلك‪ ،‬علينا أن نترقب إقبال جنس جديد من الفاسفة‪ ،‬من أولئك الذين لهم ذوق ما وميل ما مغاير ومعاكس ألسافهم –‬ ‫فاسفة الـربما الخطرة‪ ،‬بكل معنى من المعاني‪ .‬ولنقل بكل جد‪ :‬إني أرى بزوغ مثل هؤالء الفاسفة الجدد»‪ ،‬انظر‪ :‬نيتشه‪« ،‬في‬ ‫تحكيمات الفاسفة»‪ ،‬الفصل األول‪ ،‬في‪ :‬ما وراء الخير والشر‪ ،‬فقرة ‪ ،2‬ص (‪.2‬‬ ‫(‪ (108‬نيتشه‪ ،‬العلم الجذل‪ ،‬فقرة ‪ ،110‬ص ‪.110‬‬ ‫‪(109) Friedrich Nietzsche, L’Antéchrist: Imprécation contre le christianisme, Jean–Claude Hémery (trad.), tome. VIII,‬‬ ‫‪vol. 1, in: Œuvres philosophiques complètes (Paris: Gallimard; NRF, 2004), § 54, p. 220.‬‬ ‫(‪ (110‬من ممكنات النقد ً‬ ‫فعا‪ ،‬بحسب نيتشه‪ ،‬توافر الجرأة على نزع األقنعة الحاجبة لمصداق القول والفعل‪ .‬وهي ممكنات العقل‬ ‫شعبا في نظري حتى في فضيلتكم‪ ،‬شعب بأعين‬ ‫عينه‪ .‬انظر‪ :‬ترجيح نيتشه لنجاعة العقل من خال النص اآلتي‪« :‬لكنكم تظلون ً‬ ‫بليدة‪ – ،‬شعب ال يفقه معنى للعقل!»‪ ،‬انظر‪ :‬نيتشه‪« ،‬عن مشاهير الحكماء»‪ ،‬في‪ :‬هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.204‬‬ ‫‪(111) Friedrich Nietzsche, Fragments posthumes: Début 1888–début janvier 1889, Jean–Claude Hémery (trad.), in:‬‬ ‫‪Œuvres philosophiques complètes, tome. XIV (Paris: Gallimard, 2008), § 14 [61], p. 48.‬‬ ‫نيتشيا لتثبيت منظورية المراتبية‪ ،‬بوصفها ً‬ ‫عما في تحقيق التماسف بين الرفعة والوضاعة‪،‬‬ ‫(‪ (112‬الناس المقبلون هم الجسر المتاح‬ ‫ً‬ ‫لذلك‪« ،‬يوجد األقوياء على رأس المراتبية وتميزهم القدرة على المسافة وعلى الرفعة المتوحدة»‪ ،‬انظر‪Onfray, p. 146 :‬؛‬ ‫انظر‪ً :‬‬ ‫أيضا في االتجاه الفكري نفسه هذا المقطع‪« :‬سيد التراتب البديل ليس هو الخطاب الفلسفي العقاني‪ ،‬إنما هو التعبير‬ ‫الفني الخاق»‪ ،‬انظر‪ :‬عبد الرزاق بلعقروز‪ ،‬نيتشه ومهمة الفلسفة‪ :‬قلب تراتب القيم والتأويل الجمالي للحياة‪ ،‬تقديم عز العرب‬ ‫لحكيم بناني (بيروت‪ :‬الدار العربية للعلوم ناشرون؛ الجزائر‪ :‬منشورات االختاف؛ دبي‪ :‬مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم‪،‬‬ ‫‪ ،)2010‬ص ‪.145‬‬ ‫((‪ (11‬أرفين د‪ .‬يالوم‪ ،‬عندما بكى نيتشه‪ ،‬الفصل التاسع‪ ،‬تعريب خالد الجبيلي (بيروت‪ :‬منشورات الجمل‪ ،)2015 ،‬ص ‪.155‬‬ ‫‪30‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫أوال‪ ،‬استئناف‬ ‫اإلنسان‪ ،‬في مختلف توجهاته‪ ،‬وبين الحياة‪ ،‬من مسوغ فلسفي‪ .‬ومن ممكنات ذلك‪ً :‬‬ ‫التفلسف فيما وراء الخير والشر‪ ،‬تناسبًا ومعادلة نيتشه‪ :‬الحياة صنو الفكر الحر‪ .‬وثانيًا‪ ،‬النبش في‬ ‫تأسيسا‬ ‫التاريخ المحجوب بالكذب السياسي واألخاقي والكنسي‪ .‬وثالثًا‪ ،‬النظر إلى التفلسف بوصفه‬ ‫ً‬ ‫للمقبل من حدثان واستقباالته في ربض الفلسفة‪ .‬وفي هذا السياق الفلسفي «يبدو‪ ،‬إذًا‪ ،‬النقد النيتشي‬ ‫إمكانية لفهم فلسفي للتاريخ المخفي للفلسفة‪ ،‬وبوصفه تاريخًا للكينونة الامفكر فيها‪ :‬بحث عن‬ ‫معنى محكوم عليه باالحتجاب»(‪ .(114‬أما النقد الساعي إلى الشمولية في النظر‪ ،‬فيقتضي‪ ،‬من جهة‬ ‫ما سيفرزه من ارتدادات في التاريخ الفلسفي‪ ،‬تملك الفيلسوف إرادة االقتدار(‪ .(115‬وبعي ًدا عما أُلحق‬ ‫جزافًا بهذا المفهوم من فهم سيئ‪ ،‬بحمله على معنى اإلسراف في مراس القوة باعتبارها عنفًا‪ ،‬سيكون‬ ‫خصيصة من سيقوى على تدبير شرائط الفعل الفلسفي – النقدي‪ .‬ولقد أكد نيتشه تهافت الفهم الساذج‬ ‫النافي إلرادة االقتدار؛ حيث يقول‪« :‬ما يريده اإلنسان وكل كائن حي هو زيادة في االقتدار»((‪ .(11‬إن‬ ‫إرادة االستزادة من هذه المقدرة هي مسعى نيتشه؛ لقلب القيم الشائعة في عصر يدعي لنفسه الحداثة‬ ‫الخادمة للعقل البشري‪ .‬ويشترط ذلك أمرين‪ :‬أولهما نسف قيم العدمية السالبة‪ .‬وثانيهما تهيئة منابت‬ ‫لإلنسان الحكيم‪ ،‬وهو هنا اإلتيقي المعادي للقطيع والضعفاء والسفلة من اآلدميين‪ .‬عسى أن يتسنى‬ ‫لإلنسان الجديد بذلك تثبيت إتيقا األسياد‪ .‬وذلك هو األفق األرحب والبريء‪ ،‬وهو أفق القبول بحقيقة‬ ‫العود األبدي‪.‬‬ ‫تحتاج عافية التشخيص النقدي من الفيلسوف – الناقد مقدرة على التأقلم مع إكراهات منطق المعاودة‬ ‫األبدية لسيان صور من الحياة‪ ،‬والمنعرجات‪ ،‬واألزمات‪ ،‬واألحداث البشرية الجسيمة‪ .‬وكل ذلك‬ ‫داخل فضاء الصيرورة الدائمة الخالية من أي انتظار ميتافيزيقي لمثل أعلى‪ ،‬هو منتهى رهان البشر في ما‬ ‫يفعلون‪ .‬هناك إذًا حلقات‪ ،‬ما تنفك الواحدة منها تتمم األخرى ما أن تبلغ بعض منتهاها‪ .‬وعليه‪ ،‬فالحياة‬ ‫متحولة حيوات وصائرة في مسار‪ ،‬وربما قُ ّدت الحيوات من المكرور نفسه‪ .‬عل ًما أن طاقة الحياة التي‬ ‫قياسا بما تحتاجه الحياة من‬ ‫تشغلها الحياة نفسها‪ ،‬وعلى نحو فني خاق‪ ،‬هي طاقة ثابتة في نسبتها‪ً ،‬‬ ‫أسباب استمرار‪ .‬إذ الحياة قائمة‪ ،‬ودونما يقين أنها بثبات طاقتها تلك ال تخضع للزيادة أو النقصان‪،‬‬ ‫وإنما للتضخم واالنكماش‪ .‬وهذه الطاقة هي مفعول قوة متق ّومة بذاتها‪ ،‬وقد تثبتت ذات ًيا في ما يشبه‪،‬‬ ‫بلغة نيتشه‪« ،‬قوس قزح» وتموجاته غير المنحرفة‪ .‬إنه «ال َعود األبدي‪ :‬ديونيزوس رمز نشوة الحياة‪،‬‬ ‫وهوس الخلق‪ ،‬وروعة المغامرة‪ ،‬وفرح البراءة‪ ،‬وهذا يعني أن كل شيء يتغير باستمرار وإن كانت‬ ‫الحركة ال تتوقف وإن كانت األشكال والصور تعود مرات المتناهية»(‪ .(117‬أما العنصر اإلتيقي‪ ،‬فيتمثل‬ ‫في انفاق مقدرة تح ّمل أو مكابدة رجولية‪ ،‬شبيهة بقتال الجندي الباسل‪ ،‬إنه القبول التراجيدي بملهاة‬ ‫‪(114) Simha, p. 80.‬‬ ‫(‪ (115‬لقد وضعت إليزابيت‪ ،‬أخت نيتشه‪ ،‬هذا المفهوم عنوانًا لواحد من كتبه‪ ،‬بعد أن أصيب بالمرض بداية عام ‪.1889‬‬ ‫((‪« (11‬هذه اإلرادة تعني بحسبه توفير ما يكفي من حب الحياة والتحلي بالحكمة كإتيقا تفكير اإلنسان حتى يولد من نفسه اإلنسان‬ ‫المتفوق»‪ ،‬انظر‪ :‬جورج زيناتي‪ ،‬رحالت داخل الفلسفة الغربية (بيروت‪ :‬دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع‪،)199( ،‬‬ ‫ص ‪.(9‬‬ ‫(‪ (117‬المرجع نفسه‪.‬‬ ‫‪31‬‬ ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫نيتشه‪ :‬الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬ ‫الحياة‪ .‬أما العود األبدي فهو القبول باستحضار صورة عنفوان اإلغريق الذين استنوا للحياة سن ًنا‪ ،‬لعل‬ ‫أهمها التحرر لحظة اللقاء بالحياة(‪ .(118‬إنه التحرر من فكرة الخطيئة وتخطئة الحياة‪ .‬أو هو العرفان بأن‬ ‫إسراف أقدار الحياة في القسوة ال يجرمن الحياة‪ ،‬وال الوجود اإلنساني الذي تعنى إرادة االقتدار بتعظيم‬ ‫شأنه الصائر من دون توقف‪ ،‬وكما صاغه هيراقليط‪.‬‬ ‫المراجع‬ ‫‪References‬‬ ‫العربية‬ ‫ابن أحمد‪ ،‬يوسف‪« .‬منظورية الحقيقة عند نيتشه»‪ .‬مجلة الفكر العربي المعاصر‪ .‬العـدد ‪–102‬‬ ‫(‪.)1998(10‬‬ ‫أفاطون‪ .‬جمهورية أفالطون‪ .‬ترجمة ودراسة فؤاد زكريا‪ .‬اإلسكندرية‪ :‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪،‬‬ ‫‪.2004‬‬ ‫ايكن‪ ،‬هنري‪ .‬عصر اإليديولوجيا‪ .‬ترجمة فؤاد زكريا‪ .‬القاهرة‪ :‬مكتبة األنجلو المصرية‪.19(( ،‬‬ ‫برهييه‪ ،‬أميل‪ .‬تاريخ الفلسفة‪ .‬ج ‪ :7‬الفلسفة الحديثة (‪ .)1945–1850‬ترجمة جورج طرابيشي‪ .‬بيروت‪:‬‬ ‫دار الطليعة للطباعة والنشر‪.1987 ،‬‬ ‫بلعقروز‪ ،‬عبد الرزاق‪ .‬المعرفة واالرتياب‪ :‬المساءلة االرتيابية لقيمة المعرفة عند نيتشه وامتداداتها في‬ ‫الفكر الفلسفي المعاصر‪ .‬بيروت‪ :‬منتدى المعارف‪.201( ،‬‬ ‫_______‪ .‬نيتشه ومه َّمة الفلسفة‪ :‬قلب تراتب القيم والتأويل الجمالي للحياة‪ .‬تقديم عز العرب لحكيم‬ ‫بناني‪ .‬بيروت‪ :‬الدار العربية للعلوم ناشرون؛ الجزائر‪ :‬منشورات االختاف؛ دبي‪ :‬مؤسسة محمد بن‬ ‫راشد آل مكتوم‪.2010 ،‬‬ ‫دريدا‪ ،‬جاك‪ .‬المهماز‪ :‬أساليب نيتشه‪ .‬تعريب عزيز توما وإبراهيم محمود‪ .‬الاذقية‪ :‬دار الحوار للنشر‬ ‫والتوزيع‪.2010 ،‬‬ ‫دولوز‪ ،‬جيل‪ .‬نيتشه والفلسفة‪ .‬تعريب أسامة الحاج‪ .‬بيروت‪ :‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‬ ‫والتوزيع‪.199( ،‬‬ ‫زكريا‪ ،‬فؤاد‪ .‬نيتشه‪ .،‬ط ‪ .2‬سلسلة نوابغ الفكر الغربي‪ .‬القاهرة‪ :‬دار المعارف بمصر‪.19(( ،‬‬ ‫زيناتي‪ ،‬جورج‪ .‬رحالت داخل الفلسفة الغرب َّية‪ .‬بيروت‪ :‬دار المنتخب العربي للدراسات والنشر‬ ‫والتوزيع‪.199( ،‬‬ ‫(‪ (118‬يقترن النظر في المعنى بالحياة‪ .‬وبحسب نيتشه‪« :‬بقدر ما تكون المعاني ممحصة‪ ،‬يصير االنتباه أشد‪ ،‬بقدر تكثر مقتضيات‬ ‫الحياة‪ ،‬يكون أعسر علينا قبول معرفة بالشيء‪ ،‬بالواقعة‪ ،‬وما نقوى على المضي قد ًما إلى معرفة نهائية‪ ،‬إلى ‘حقيقة’»‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Nietzsche, Fragments posthumes, tome. XI, 38 [14], p. 347.‬‬ ‫‪32‬‬ ‫العدد ‪Issue 7 / 28‬‬ ‫ربيع ‪Spring 2019‬‬ ‫سلوتردايك‪ ،‬بيتر‪ .‬اإلنجيل الخامس لنيتشه‪ .‬ترجمة علي مصباح‪ .‬كولونيا‪ ،‬ألمانيا‪ :‬منشورات الجمل‪،‬‬ ‫(‪.200‬‬ ‫الشابي‪ ،‬نور الدين‪ .‬نيتشه ونقد الحداثة‪ .‬سلسلة أطروحات‪ .‬تونس‪ :‬دار المعرفة للنشر‪.2005 ،‬‬ ‫فنك‪ ،‬أويغن‪ .‬فلسفة نيتشه‪ .‬ترجمة وتحقيق إلياس بديوي‪ .‬دمشق‪ :‬منشورات وزارة الثقافة واإلرشاد‬ ‫القومي‪.1974 ،‬‬ ‫مونتيبيلو‪ ،‬بيير‪ .‬نيتشه وإرادة القوة‪ .‬ترجمة وتقديم جمال مفرج‪ .‬الجزائر‪ :‬منشورات االختاف‪.2010 ،‬‬ ‫نيتشه‪ ،‬فريدريك‪ .‬إنسان مفرط في إنسانيته‪ :‬كتاب العقول الحرة‪ .‬ج ‪ .1‬ترجمة محمد الناجي‪ .‬الدار‬ ‫البيضاء‪ :‬إفريقيا الشرق‪.1998 ،‬‬ ‫_______‪ .‬شوبنهاور مرب ًيا‪ .‬ترجمة قحطان جاسم‪ .‬الجزائر‪ :‬منشورات االختاف؛ بيروت‪ :‬منشورات‬ ‫ضفاف؛ الرباط‪ :‬دار األمان للنشر والتوزيع؛ بغداد‪ :‬دار أوما‪.201( ،‬‬ ‫_______‪ .‬العلم الجذل‪ .‬ترجمة سعاد حرب‪ .‬بيروت‪ :‬طباعة دار المنتخب العربي للدراسات والنشر‬ ‫والتوزيع‪.2001 ،‬‬ ‫_______‪ .‬غسق األوثان‪ :‬أو كيف نتعاطى الفلسفة قر ًعا بالمطرقة‪ .‬ترجمة علي مصباح‪ .‬بيروت‪:‬‬ ‫منشورات الجمل‪.2010 ،‬‬ ‫_______‪ .‬الفلسفة في العصر المأساوي اإلغريقي‪ .‬ترجمة سهيل القش‪ .‬تقديم ميشال فوكو‪ .‬ط ‪.2‬‬ ‫بيروت‪ :‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪.198( ،‬‬ ‫_______‪ .‬في جنيالوجيا األخالق‪ .‬ترجمة وتقديم فتحي المسكيني‪ .‬مراجعة محمد محجوب‪ .‬سلسلة‬ ‫ديوان الفلسفة‪ .‬تونس‪ :‬المركز الوطني للترجمة‪.2010 ،‬‬ ‫_______‪ .‬ما وراء الخير والشر‪ :‬تباشير فلسفة للمستقبل‪ .‬تعريب جيزيا فالور حجار‪ .‬مراجعة موسى‬ ‫وهبه‪ .‬الجزائر‪ :‬المؤسسة الوطنية لاتصال والنشر واإلشهار؛ بيروت‪ :‬دار الفارابي‪.200( ،‬‬ ‫_______‪ .‬نقيض المسيح‪ :‬مقال اللعنة على المسيحية‪ .‬ترجمة علي مصباح‪ .‬بيروت‪ :‬منشورات‬ ‫الجمل‪.2011 ،‬‬ ‫_______‪ .‬هذا هو اإلنسان‪ .‬ترجمة علي مصباح‪ .‬كولونيا‪ :‬منشورات الجمل‪.200( ،‬‬ ‫_______‪ .‬هكذا تكلم زرادشت‪ :‬كتاب للجميع ولغير أحد‪ .‬ترجمة وتقديم علي مصباح‪ .‬كولونيا‪،‬‬ ‫ألمانيا‪ :‬منشورات الجمل‪.2007 ،‬‬ ‫يالوم‪ ،‬أرفين‪ .‬عندما بكى نيتشه‪ .‬ترجمة خالد الجبيلي‪ .‬بيروت‪ :‬منشورات الجمل‪.2015 ،‬‬ 33 ‫ثاحبرو تاسارد‬ ‫ الحس النقدي أساس المعرفة المرحة‬:‫نيتشه‬ ‫األجنبية‬ Blondel, Eric. Nietzsche: Le Corps et la culture – La philosophie comme généalogie philologique. Coll. Philosophie d’aujourd’hui. Paris: Presses universitaires de France, 1986. Deleuze, Gilles. Critique et clinique. Coll. Paradoxe. Paris: Éditions de Minuit, 2006. _______. Différence et répétition. 6ème éd. Paris: Presses universitaires de France, 1989. _______. Nietzsche et la philosophie. Coll. idéa no. 39. Tunis: Cérès éd., 1995. Descartes, René. Discours de la méthode. avec des aperçus sur le mouvement des idées avant Descartes, une biographie chronologique, une Int. À l’œuvre, une analyse méthodique du Discours, des notes, des questions et des documents par J.–M. Fataud. 2nde éd. Coll. Univers des Lettres. Paris: Bordas, 1980. Granier, Jean. Nietzsche. 5ème éd. Coll. Que sais–je? Paris: Presses universitaires de France, 1994. _______. Le Problème de la vérité dans la philosophie de Nietzsche. Coll. L’ordre philosophique. 2nde éd. Paris: Seuil, 1966. Kant, Emmanuel .Critique de la raison pure. Jules Barni (trad.). P. Archambault (rév.). Luc Ferry (préf.). Bernard Rousset (chro. & bib.). Paris: G. Flammarion, 1987. _______. Critique de la raison pratique. François Picavet (trad.). Ferdinand Alquié (intr.). Paris: Quadrige/ Presses universitaires de France, 1989. _______. Logique. Louis Guillermit (trad.). Paris: Vrin, 1970. Kremer–Marietti, Angèle. L’Homme et ses labyrinthes: Essai sur Friedrich Nietzsche. Coll. Inédit. Paris: Union générale d’éditions, 1972. Misrahi, Robert. Qu’est–ce que l’Éthique?: L’Éthique et le bonheur. Paris: Armand Colin, 1997. Nietzsche, Friedrich. Œuvres philosophiques complètes. textes et variantes établis par Giorgio Colli et Mazzino Montinari. sous la dir. de Gilles Deleuze et Maurice De Gandillac. Paris: Gallimard/ nrf, 1982–2008. ______. Œuvres philosophiques complètes. tome. III. Humain, trop humain: Un livre pour esprits libres. I. Robert Rovini (trad.). éd. Revue par Marc B. De Launay. Paris: Gallimard, 1988. Issue 7 / 28 ‫العدد‬ Spring 2019 ‫ربيع‬ 34 _______.Œuvres philosophiques complètes. tome. V. Le Gai savoir: La Gaya Scienza. Pierre Klossowski (trad). éd. Revue et augmentée par Marc B. De Launay. Paris: Gallimard, 2006. _______.Œuvres philosophiques complètes. tome. VI. Ainsi parlait Zarathoustra: Un livre qui est pour tous et qui n’est pour personne. Maurice De Gandillac (trad). Paris: Gallimard, 2004. _______.Œuvres philosophiques complètes. Par–delà bien et mal: Prélude d’une philosophie de l’avenir. trad. de l’allemand par Cornélius Heim, Isabelle Hildenbrand & Jean Gratien. tome. VII. Paris: Plessis–Trévise, 2006. _______.Œuvres philosophiques complètes. Crépuscule des Idoles ou Comment philosopher à coups de marteau, L’Antéchrist: Imprécation contre le christianisme. trad. de l’allemand par Jean–Claude Hémery. tome. VIII. Paris: Gallimard; NRF 2004. _______. Œuvres philosophiques complètes. Fragments posthumes: Été 1882–printemps 1884. Anne–Sophie Astrup & Marc De Launay (trad). tome IX. Paris: Gallimard, 1997. _______. Œuvres philosophiques complètes. tome. XII. Fragments posthumes: Automne 1885–automne 1887. Julien Hervier (trad.). Paris: Gallimard, 2007. _______.Œuvres philosophiques complètes. tome. XIV. Fragments posthumes: Début 1888–début janvier 1889. Jean–Claude Hémery (trad.). Paris: Gallimard, 2008. _______. Le Livre du philosophe: Études théorétiques. tome. II (trad.) de l’allemand, int. et notes par Angèle Kremer–Marietti. Paris: Garnier Flammarion, 1991. Onfray, Michel. La Sagesse tragique: Du bon usage de Nietzsche. Coll. Le Livre de poche. Paris: LGF, 2006. Reboul, Olivier. Nietzsche critique de Kant. Coll. SUP .Paris: Presses universitaires de France,1974. Simha, André. Nietzsche. Coll. Pour connaître .Paris: Bordas, 1988. Souchon, Gisèle. Nietzsche: Généalogie de l’individu. Coll. Commentaires philosophiques. Paris: L’Harmattan, 2003.