بعد الحب
بعد الحب
بعد الحب
An epic love story from the author of “Story of someone” and “Inferiority”
FIRASS JUBRANE
All the events in this novel are inspired by fiction and any resemblance to this events,
personalities or names it is coincidence no more.
All rights reserved. No portion of this book may be reproduced, stored in retrieval system
or transmitted in any form or by any means – electronic, mechanical, photocopy, recording
or any other – except for brief quotations in printed reviews, without prior permission of
the publisher.
Dedication
To all my exs…
Table of Contents
PROLOGUE ............................................................................................. x
Chapter 1 ................................................................................................. 2
Chapter 2 ............................................................................................... 16
ﻋﻮدة اﻟﺴﺠﻴﻨﺔ........................................................................................... 16
Chapter 3 ............................................................................................... 27
اﻟﻬﺎﺗﻒ....................................................................................................... 27
Chapter 4 ............................................................................................... 37
Chapter 5 ............................................................................................... 48
ﺷﺮوع ﺑﺎﻟﻘﺘﻞ.............................................................................................. 48
Chapter 6 ............................................................................................... 60
ﺣﻀﺎﻧﺔ رودي............................................................................................. 60
Chapter 7 ............................................................................................... 71
اﻷب............................................................................................................. 71
Chapter 8 ............................................................................................... 79
اﻟﻌﺸﺎء اﻷﺧﻴﺮ.............................................................................................. 79
v
After Love
Chapter 9 ............................................................................................... 92
ﻟﻘﺎء ﺟﺪﻳﺪ................................................................................................. 92
vi
After Love
Maria Kamal,
Zeinab Baltaji
TWITTER: @JUBRANEFIRASS
INSTAGRAM: @FIRASSJUBRANE
EMAIL: NEWS4FIRAS@GMAIL.COM
vii
After Love
AUTHOR’S BIOGRAPHY
Born 5th of May, 1979, Firass jubrane began his career very early in his
life. Consisting of 7 members including his father and mother, Firass
was denied from carrying on with his career in theatre, since his
parent’s dream was that their only son pursues a doctorate degree.
During his childhood, unlike all other kids who were fond of different
kinds of activities like basketball, football and racing, he preferred to
draw, read and write.
Even though his parents believed in him, and saw a great talent in
writing stories as a child and selling them to all members of the family,
he came up with a play and presented them in school and scouts.
At the time, Firass was the only one who revived the radio drama in
his own special way. His achievements in 1999 include ( Warak el
kharif, Inta el madi, Ra7il, Jubran k. Jubran, Habib el rou7, Majhul
viii
After Love
They say, never judge a book by its cover. Firass Jubrane is someone
who is sincere, who loves dearly from all his heart and nevertheless, is
a caring and tender person.
Firass Jubrane’s theory in life says: “LIVE
FREE OR DIE” ...
ix
PROLOGUE
x
1
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
Chapter 1
ﺷﻐﻒ
2
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
ليالي بيروت رائعة فاتنة كعادتها ,وكان البحر المتكسّر األمواج عند
أقدام ست الدنيا بيروت ,يزيد روعة الليل الغامر بوشاحه األسود
الساحر.
وفي وسط المدينة ,في دار فسيحة األرجاء ,دخلت كارمن األسعد
غرفتها تحزم حقيبتها للسفر إلى العاصمة الفرنسية باريس برفقة
إبنها رودي.
أدارت كارمن وجهها نحو حقيبة السفر وهي تتنهﱠد على رغم أنها
كانت تشعر بالراحة بخصوص مغادرة بيروت في صباح اليوم
التالي.
لقد كانت قلّما تسافر أو تخرج من المنزل ,فقد كانت الفرص أو
المناسبات نادرة بالنسبة إليها .أما اآلن وقد سنحت لها الفرصة
بذلك لكي تقوم بزيارة عائلتها المقيمة في باريس.
كارمن امرأة من عائلة رفيعة جداً ,إنها ابنة السفير السابق اللبناني
توفيق األسعد ,التي ولدت في باريس وقضت حياتها بين لبنان
وفرنسا.
3
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
لقد كان خالد دائماً بارد األعصاب والمشاعر .لم يكن لديه دفئ
من أي جانب في حياته ,وعلى رغم ذلك فقد كان عاطفياً محبّاً لها
في البداية .وبسبب طبيعته تلك فإنها اعتبرت كل ابتسامة فازت بها
وكل إيماءة دافئة حصلت عليها انتصاراً لها ,وذلك ألنه لم يكن
يظهر مودةً ألحد غيرها.
لقد كانت شابة فتية آنذاك وكانت مأثورة به .كان خالد رج ً
ال
يسيطر في شكل كامل على كل جوانب عالمه .وكان يرى في ابنة
السفير السابق الكثير من األشياء التي تروق له.
4
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
دخلت عليه بابتسامة رقيقة تشّع على وجهها فرأته صاحياً في
سريره
" -لماذا لم تنم بعد يا رودي? " سألته بنبرة دافئة ,لكنه أجاب على
سؤالها بسؤالٍ آخر.
ولكن ...من أين تأتي بالنعاس? كيف ستغطّ بالنوم العميق واألفكار
تتصارع في رأسها?
اختارت رواية تحمل اسم "الحب القديم" على رغم أنها سبقت
وقرأتها منذ بضعة أشهر ,ولكن لهذه القصة قواسم عديدة مشتركة
بينهما ,فبطلة الحب القديم اسمها أيضاً كارمن ,تزوجت من نور,
رجل أحبته حبّاً خيّب آمالها وشوّه لها المعنى الحقيقي للحب.
5
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -ما الذي يحدث معي هذه الليلة? هل سببه الشوق لمالقاة عائلتي
أم السعادة من الخروج من سجني? وأي سعادة هذه ,فمرجوعي
إليه ...تبّاً لهذه الحياة وتبّاً للواقع الذي أعيشه".
لم تكتفِ كارمن بهذا القدر من الحديث مع نفسها ,رمت الرواية من
يدها وأطفأت النور ودفنت رأسها مجدداً في وسط الوسادة وتابعت
حديثها الممل" :ما كان سيحدث لو أن خالد كان خالد آخر ...رجل
شفاف يعشقني بجنون ويهتم بتفاصيل حياتي? ألهذه الدرجة أنا
امرأة بشعة? نعم أنا لست بامرأة جميلة وربما لست بامرأة حتى,
أصبحتُ أشك في وجودي ككائن بشري على وجه األرض ,فأنا
بواقعي هذا أشعر وكأنني تمثال مركون في المنزل سيخرج منه غداً
للصيانة".
وفي نهاية آخر أسبوع لها في باريس قبل عودتها إلى األراضي
اللبنانية حيث منزلها الكبير الذي يشبه إلى حدّ كبير السجن,
توجهت إلى شارع بيكليه ) ( Pecl etوقصدت قاعة " صالون دو
ليفير" ) (Sal on du l i vr eلتحضر توقيع كتابٍ جديدٍ لروائي
فرنسي شاب ,كانت قد تعرفت عليه قبل أسابيع في حفلة عشاء
أقامها صديقاً لوالدها في منزله.
6
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
دخولها إلى القاعة كان ملفتاً لألنظار بسبب جمال طلّتها وجاذبية
تكاوينها ,فكارمن امرأة طويلة ,حمراء الشعر ,ممشوقة ومتناسقة
القامة ,جميلة الشكل والوجه ,وفي فصل الخريف ستكون قد تمﱠت
الرابع والعشرين من عمرها.
لنوح هاشم قصة مختلفة وحياة مختلفة وعالم آخر ,ولكن المأساة
واحدة وهي مأساة الوحدة على رغم وجود زوجته الفرنسية سارة
فيكتور بقربه.
فلماذا هو معها? وما الذي يجبره على العيش مع امرأة مريضة بداءٍ
مزمنٍ?
نوح إنسانياً إلى درجةٍ مبالغ فيها ,فهذه الصفة التي ورثها عن والده
اللبناني عماد هاشـــــــــــــــــــم حوﱠلت حياته إلى ما هو عليه حاله ,كان
صديقه الروائي أوليفيه ســـــورون يصفه بالشـــــــــــمعة .وصحّ وصف
الصديق الفرنسي له .فنوح كالشـــــــــــمعة تماماً ,يحترق ليضيء.
7
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
لقد كان هادئاً ,ســــهل المعشــــر ,وبدا شـــــاباً بشـــكل مثير للدهشة,
وسرعان ما أبدا حسّ الدعابة والمرح منذ اللقاء األول.
" -هل تمانعين بمرافقتي إلى العشــــاء?" ســــــــــألها نوح وكانت حفلة
التوقيع قد أشــرفت على نهايتها ,فوجئت كارمن من دعوته وفوجئت
أكثر بنزولها لطلبه وتساءَلت في نفســها عن سبب قبولها دعوة رجل
متزوج لها وحدها.
انتـظـر نوح ردّاً من كارمــن التي لزمـت الصمـت وبــدت مرتـبـكة ,هل
تقول نعم وترافقه إلى العشاء ,أم تعتذر بلباقة ويذهب كل منهما في
طريق?
8
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
ــ " ليس لدي أي مانع ,شـــــــــــــــــرط أن يكون المكان هادئاً وال يضجّ
بالناس".
ــ "بكل سرور سيدتي".
قال ذلك وكانت عيناه تلمعان ,وكارمن بادلته نفس النظرة على رغم
استغرابها من نزولها عند طلبه.
فكيف المرأة رزيـنـة مثلها أن ترافق رجالً لم تعرفه عينــاها أكثر من
ســــــاعة واحدة ? ,حاولت أن تتجاهل كل ما تصارعت في رأسها من
أفكار وودعت صديقها الروائي الفرنسي وخرجت برفقة نوح.
9
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
كلمات األغنية كان تتطابق على حياتهما ,فكلّ منهما له شـريك يقول
"يا رب نفسي" وال يأبه لمشاعر اآلخرين.
في هذه األثناء الزوجة ســــــارة فـيكتـور كانت مع صديــــقة لها خارج
العاصمة تلهو وتمرح ,أما الزوج خالد أبو الشـــريف في بيروت يعمل
أو يخطّط إلنجاز عمل جديد كعادته.
10
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
كان حديثـهما يكاد ال ينتهي حول حياتهما ,فقد فـتن نوح بقصصها,
وهي أيضاً كذلك ,وأصابتهما حالة من الدهشــــــــــــة عندما وجد كل
منهما نقاط كثيرة مشتركة حتى في انواع الموســيقى ,أصناف األكل
التي اختاراها على مائدة العشــــــــــــــــاء ,وحركات اليد التي قاما بها
بصورة عفوية غير مقصودة.
ـ "ما الذي جعلك تذهبين لحضور توقيع كتاب أوليفيه سورون? "
سألها نوح وفي سؤاله معنىً آخر فهمته على الفور.
فأجابت مبتسمة:
لمعت عيناه بسبب ذكائها ,فبادرها بابتسامة وردّ بصوتٍ دافئ وكأنه
يريد التخلص من الموقف:
سكب نوح كوباً من الماء وتناول منه جرعة ورفع نظره إليها قائالً:
"أنتِ أذكى مما تصورت ,هذا صحيح ,لقد قصدت به سؤاالً آخر,
كنت أنوي أن أسألك ,هل كنتِ تتوقعين أننا ســـنلتقي ونقضي معاً
وقتاً جميالً هكذا?".
ضحك نوح ضحكة نابعة من قلبه وكأنه طفل في الســـــنة األولى من
عمره ,واكتفى بدالً من اإلجابة بحركة صغيرة في عينيه.
11
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
وبسبب صمتها جال في رأس نوح أسئلة عديدة ايضاً ,هل قوله لها
حول ابنها فيه إحراجٌ لها ? هل هناك سرٌ تخفيه عنه ? ولكنها بدت
أكثــر من واضحة طيــلة حديـثـهما عن حياتــها وفي قصصها ,ماذا
يحدث ?
فاعتذر على ما قاله ولكنها بادرته مســــــــــرعة من دون تفكير" .على
ماذا تعتذر? أنتَ لم تســـئ إليّ بشيءٍ يســــــــــــــتدعي االعتذار" .
فهزّ برأسه وطلب الحساب لالنصراف من دون أي تعليق.
12
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
صمت طويل إلى أن اقتربا إلى سـيارتها التي ركنتها في موقف قاعة
"صالون دو ليفير".
حاول نــوح أن يقطع الصمت عدة مرات ولكنه لم يتـمكﱠن ,ماذا حدث
لها ,فمنذ قليل كانا يطلقا األحاديث والقصص واألخبار بشكلٍ يفوق
عادتهما ,هل هي لحظة الوداع ألمسيتهما الغير مرسومة?
أوقف ســـــيارته وترجّل منها مسرعاً ليفتح لها الباب كما هي تقاليد
أصحاب المســـــــــتوى الرفيع في المجتمع ,فابتســـــــمت ونزلت منها
وتقابال بنظرة متبادلة.
ـ "وماذا بعد?".
قال نوح وعلى وجهه ألف عبارة...
تجاهلت كل هذا ,وتمالكت نفســــــها وابتســــمت ابتسامة رزينة قائلة
بعد ذلك:
ـ " تشرفت جداً بمعرفتك ســــــــيد نوح ...آمَلُ أن نجتمع إن شاء الله
في وقتٍ قريب".
أخذ بيدها وقبلها وأحنى رأسه قائالً:
13
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
ـ "ال ,ولكني كنت أنوي أن أبتاعه غداً من المكتبة قبل ذهابي إلى
المطار"...
وقفت كارمن أمام نافذة غرفة نومها بعد يومٍ مليء باألحداث ,تنظر
إلى الحديقة في منزل والدها في باريس .إنه المنزل الذي كانت قد
قضت فيه معظم طفولتها ومراهقتها قبل زواجها بخالد ,والذي كان
قد أبصر ولدها رودي النور فيه ,كان المنزل عتيقاً وجميالً
بأسطحه العالية والقوالب الجميلة ,كان كل ما حولها يتألق وقد
عُني به أن يكون في منتهى الجمال والكمال.
وكانت الحديقة مشذبة بعناية ,واألزهار البيضاء المغروسة تعتبر
من أجمل الورود في بأوروبا.
14
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
15
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
Chapter 2
ﻋﻮدة اﻟﺴﺠﻴﻨﺔ
16
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
عادت كارمن إلى بيروت ,وعادت السجينة لزنزانتها السابقة ,وما لم
تكن تحســــبه أنها سوف تتلقى فور خروجها من مطار بيروت رسالة
على هاتفها المحمول من نوح كتب لها فيها بالفرنسية:
لم تســـــــــــــــتطع كارمن القيام بأي رد فعل حيال ذلك ,ألن خالد كان
جالساً بقربها يقود السيارة.
ـ "هل استمتعتي? "سألها خالد من دون أن ينظر إليها ,وكأن السـؤال
كان لرفع العتب فقط.
ـ "رودي كان دائم الســـؤال عنك ...ليتك لحقت بنا ...فنحن وعائلتي
أمضينا إجازة رائعة."...
ـ "وكيف هو والدك ?" سألها وهو ينظر إلى الساعة وكأن لديه شـيء
ما.
17
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
يا لهذه التضحية الكبيرة ,ويا لهذا التعبير العميق عن مدى اشتياقه
الكبير لزوجته وابنه اللذان غابا عنه إجازة فصل الصيف بالكامل.
في صباح اليوم التالي لعودة كارمن إلى بيروت ,اســـتيقظ خالد من
نومه كالمعتاد عند التاسعة من كل صباح ,فتثاءب وتمطّى ,واســـتعاد
إلى الذاكرة صوراً من الحلم الذي ألم به ,ثم تذكر فجأة أنه ال ينام
إلى جانب زوجته بل على األريــكة الجلدية في مكتبه .فنهض وانتعل
حذاءه البني وخرج قبل وصول الســــكرتيرة التي يبدأ دوامها اليومي
عند التاسعة والنصف .أدار محرك الســـــــــــيارة وانطلق مسرعاً إلى
المنزل من دون أن يغسل وجهه في المكتب قبل المغادرة.
من يتابع هذا المشهد يقول إن خالد أبو الشــــــــريف شـــــــعر بتأنيب
الضمير تـــجاه زوجته الرقيقة ,زهرة الربيع البريّــــة كارمن ,وذهب
إليها لتحسين موقفه.
ال ...إنها ليســـــــت من صفات هذا الزوج ,فمن وجهة نظر خالد أن
المكوث على كنبة المكتب الجلدية بعد إرهاقٍ طويل في العمل ليــــلة
كاملة بعيد فيها عن المنزل ليس باألمر الكبير وال يســــــــتدعي حتى
للتبرير.
عندما وصل إلى المنـــزل ودخــل غرفتــــه ,وجـــد كــارمن تـــقف أمام
الخزانة تعيد الفستان األسود الذي ارتدته في حفلة توقيع الكتاب,
ورافقت نوح فيه إلى المطعم لتناول العشاء.
دخل عليها بكل برودة أعصاب" ,صباح الخيــــــــر ,هناك ورقة مهمة
أريد أن آخذها من درج خزانتي وأعود إلى العمل .فلدي اجتماع مع
رجل وصل من الصين عند العاشرة والنصف ".
18
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
حينها شـــــــعرت بغصة كبيرة ,على األقل على خالد أن يعطيها سبباً
لغيابه عن المنزل ,حتى لو كان السبب كاذباً ,فمن المؤكد أن تشعر
المرأة أن زوجها يقوم بخيانتها.
أخذ خالد الورقة التي عاد إلى المنزل بسببها وانصرف بعد إن قال
لها "أراكِ في المساء ".
19
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
الذت كارمن بالصالون على كنبة مجاورة ,والصمت بينهما كان ســيّد
الجلسة ,فأشــــــــــعل خالد لفافة فاخرة وأخذ يدخنها ,دخان اللفافة
المتصاعد نحو الســـــــــــــقف العالي كان يشــــــــــــبه نيران بيروت في
الحرب ,وأخذ خالد يســـحب وينفخ في الدخان واللفافة تذوب شيئاً
فشيئاً ,وقلب كارمن يذوب حسرة على نفسها أيضاً ألنها كانت كهذه
اللفافة تذوب بين أصابع خالد أبو الشريف يوماً تلو اآلخر.
20
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
بهذا قطع خالد حاجز الصمت ,وهنا جال في رأسها ســؤاالُ لم تبوح
له به ,ولكنها كانت تتمنى ذلك:
انتظر جوابها فلم تجيب لحدّة األفكار المهزومة التي كانـــــت تطوف
حول تفكيرها ,فقطع خالد حبل أفكارها مردداً طرح ســــــــــؤاله مرة
أخرى ,فأومأت برأســـــها نافية متحججة بعملٍ ما ســــــــــتقوم به ,لم
يصرّ ولم يحاول إقناعها ,فإذا لم تكن تنوي معاشــــــــــــــرته معاشـــرة
األزواج اآلن ,فإليها بوقتٍ آخر...
راحت رزنامة األيام تسير والحال كما هو ,سجن ووحدة وألم ,فأط ّل
اليوم األول من شهر تشرين الثاني وكان رودي قد عاد قبل شهر إلى
مدرسته وامتزج طقس بيروت الدافئ بالنسمات الباردة.
كانت كارمن على أتم االسـتعداد لزيارة دار صديقة قديمة لها عادت
من قطر ,فنزلت الســــــــــاللم وركبت سيارتها وانطلقت متوجهة نحو
21
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
وهذا ما كان بسبب لها عائقاً تجاه الفتيان ,كانت سلمى كلما تعجب
في فتى وتغرق في حبّه كأي مراهقة في ســــــــنها ,يقطع عالقته بها
بعد أن يفتن بجمال ورقة كارمن ويحاول التقرّب منها ,وما زادتهن
تعلقاً ببعض هي مواقف الصدّ التي تقوم بها كارمن من أجل
صديقتها المفضلة.
ـ "لماذا لم تحضري رودي معك? كنت أود أن أراه كيف كبر وأسمع
كلماته المقلوبة?" قالت لها سلمى معاتبة.
22
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
ـ "ألنني أريد أن نجلس براحتنا ,فرودي طفل شقي ولن يتركنا نهنأ
في الجلسة ,ولكن أعدك أنني سأحضره معي في المرّات المقبلة" .
قالت لها وتابعت سائلة" :كم تنوين المكوث في لبنان?".
23
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
ــ"أنا لم أعرف نوح سوى ساعات قليلة فقط ...ولم يتصل بي أو
يتواصل معي طيلة هذه الفترة".
وما كانت سوى لحظات إال ورنّ جرس هاتف كارمن ,فتحت كارمن
حقيبتها واستلت جهاز هاتفها الخليوي وألقت نظرة على شاشته,
وارتعشت يدها عندما وجدت على الشاشة اسم نوح هاشم.
قالت لها والذهول يخفي نصف صوتها ,ثم كبست على الزر الذي
يجيب وردت على نوح.
24
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
فماذا يقول هذا الغريب لي ,فهو يبالغ في التعبير ألنني حتماً ال
أعني له ,أو على األقل ال أعني له بهذا القدر الذي يجعله يتصل من
فرنسا إلى بيروت ليقوله.
25
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
هل نوح متيّم بها?ـ فالقلب ال يعرف التمييزـ عبارة رددتها في سرّها
بعد أن ســـــــــمعتها قبل دقيقة واحدة من ســـــــــلمى قبل اتصال نوح
المفاجئ.
اســــــــتغرق اتصاله ثالثة وعشرون دقيقة أخذ فيهم نوح يحدثها عن
أحواله ويعرف أخبارها وحكاياتها الصغيرة والكبيرة ,وســــــــــــــــــلمى
جالسة بقربها تســــــــــــــتمع صامتة تتراقص األسئلة برأسها ,وكأنهم
مجموعة أصدقاء يرقصون بجنون في ملهاً ليلي مساء يوم الســــــبت
في شارع الجمّيزة.
26
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
Chapter 3
اﻟﻬﺎﺗﻒ
27
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
اتصال نوح هاشم على حين غفلة ,غيﱠر الكثير في حياتها فيما بعد,
ألنه كان مفتاحاً لصداقة متينة بينهما.
لقد اعتادا الحديث على الهاتف ثالث أو أربع مرات أســـــــبوعياً ,ما
كانت تخبر خالد عنه ,وال تخبر أحداً مما تعرفهم ســــــوى صديقتها
ســــــــــلمى ,التي أصرّت على االحتفال بعيد ميالدها بحفلة عشــــــاء
صغيرة أقامتها في منزلها في الرابية ,ودعت إليها عدداً صغيراً من
األصدقاء ,وطبعاً خــالد لم يــــأتِ بــــحجة تــــرك الصديـقات تأخذن
راحتهن في األمســــــــــية ,وعايد كارمن بخاتمٍ مرصﱠع ببضعة حبـــّات
ماسية.
هديـــــــــة خالد في عيـــد ميالدها كانت هدية عاديـــة جداً على رغم
ارتفاع ثمنها ,لكن لنوح كان له هدية مميزة فاقت توقعاتها.
فكارمن صباح يوم الحادي عشر من شـــــــــهر تشرين الثاني وهو يوم
مولدها ,تلقت طرداً كبيرة وصل إلى منزلها يحتوي على أربع هدايا.
األولى كتاب إميـــــل زوال ,وكان ســــــــــــبق له وعلم أنها من المعجبين
بكتابـــــات وقصص هذا الكاتب الفرنســـــي ,وقرص موسيقي يحتوي
على أجمل أغنيات فيروز" ,بكتب اســــــمك"" ,شايف البحر"" ,طلعلي
28
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
البكي"" ,عندي ثقة فيك"" ,كيفك إنت"" ,وحدن" وغيرها من أروع ما
غنت ســــــــــفيرة لبنان إلى النجوم ,الهدية الثالثة سلسلة وقطعة من
الذهب األبيـض من تصميم المصمّم الفرنســــــــي العالمي جون لوك
مارتـــــان ,أما الهديــة الرابعة فهي زجاجـة من العطر الهنـــدي الذي
سيذكرها دوماً باللقاء األول.
أخذت كارمن تفتح الهدايا بفرح واهتمام كطفلة صغيرة في ليلة
الميالد ـــ يا لهذا الرجل الذي بات يدخل البهجة والســــــرور إلى
حياتها ـــ فأين كان منذ زمن? فقد كانت قبل ذلك تشعر وكأنها وردة
ذابلة مهملة في إناءٍ ثمين ال يحتوي على الماء ,صداقتها بنوح
أخذت تعيد إلى جسمها الحياة ومكالماته تعززها وتقويها.
وباستثناء ابنها رودي وصديقتها سلمى ما كان لدى كارمن أحد
تتحدث إليه.
لقد كان صوت نوح أحياناً ,نافذة اتصالها الوحيد مع راشد آخر
طوال يومها ,فيما عدا مربية رودي والخدم .وبدا أنه الشخص
الوحيد في عالمها الذي كان مهتماً بها حقاً وبصدق ,كان خالد ,إن
فعل فنادراً ما يسألها عن أحوالها .أما الساعات التي كانت تقضيها
في الحديث إلى نوح فقد فتحت النوافذ إلى عالم أوسع وأغنى,
كانت تلك الساعات كنسمة هواء عليل بالنسبة إلى كارمن ,وحبل
نجاة تلجأ إليه في لياليها الحالكة ,ومن خالل أحاديثهما العديدة
المتبادلة معاً صار نوح صديقها الحميم ,وغدا خالد هو الغريب في
حياتها.
لقد حاولت أن تشرح ذلك لنوح مرة في إحدى مكالماتها الهاتفية
في الصباح الباكر .كان رودي مريضاً أليام عديدة بسبب جرثومة
التقتها من أحد أصدقائه في المدرسة ,وكانت تشعر انها منهارة
29
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
ومنهكة وآيلة للسقوط ,وكانت مكتئبة بسبب برودة تعامل خالد معها
في الليلة الفائتة .كان صوتها يتقطﱠع من البكاء ,والدموع تترقرق من
عينيها عندما راحت تحكي عن ذلك لنوح الذي هَالَهُ قســــــــــــوة قلب
خالد نحو كارمن وابنها الصغير.
إنّ المشــــــــــــــاعر التي يعبّر عنها كل من نوح وكارمن لآلخر كانت ال
تتعدّى الصداقة رســــمياً .لم تعترف كارمن له أو لنفســها بأن هناك
أكثر من مجرد إعجاب وارتياح واستمتاع بفن الحوار المفقود .ولكن
نوح قد الحظ على نفســـــــــــــه مع الوقت أنه يصاب بالقلق عندما ال
تتصل به ,وأنه كان يشـــــــــــــتاق إليها عندما كانت ال تســـــتطيع تلقي
مكالماته بســــــــــــــــــــبب مرافقتها لخالد إلى مكان ما .لقد كان قلقه
واشتياقه أكبر من أن يستطيع اإلفصاح عنه أو اإلقرار به ,لقد صار
وجودها راسخاً في حياته وعليه كان يستـند.
ـــ "أين ستحتفلين ليلة رأس السنة?" سألها نوح في إحدى المكالمات
الهاتفية في بداية األسبوع األخير للسنة.
ـــ "لن أحتفل يا عزيزي" أجابت بصوتٍ يمتزج مع الملل وتابعت قائلة
"ولكنني ربما سألبي وخالد دعوة أحد أصدقائه ,ســيكون ذلك ممالً
للغاية ...وأنت?" سألته من دون أن تكون تعرف ما وراء سؤاله ,فنوح
كان ينوي زيارة لبنان لقضاء ليلة رأس السنة ,وعندما علمت بذلك
لمعت عيناها فرحاً.
" -يجب أن أراك ...ال أريد أن أكون في بلدٍ أنتِ موجودة فيه وال
أتحدث معك سوى على الهاتف" قال لها محذراً ,وكان الوقت آنذاك
قد تجاوز منتصف الليل وخالد لم يعد بعد.
30
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
ضحكت كارمن ضحكة طويلة وطمأنته بجوابها" :ما عليك أنت إال
أن تركب الطائرة وتأتي بيروت وتدع جميع األمور على صديقتك
كارمن".
رفعت كارمن نبرة صوتها وهي تقول ذلك ,وكانت قلما تفعل ذلك.
31
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -ال وقت لي للجدل" قال رافعاً يده في وجهها وكأنه ينوي قطع
الجدل بينهما واسترسل قائالً:
" -اسمعي ...فما حدث وما يحدث من وراء ظهري ال يروق لي
البتّة ...وزوجك المتحجر القلب كما قلتي له سيجعلك تدفعين
الثمن غالياً على ذلك ...لقد سمعتك تصفين حياتك بالسجن...
وبما أن السجن هو ما تطلقينه على حياتك معي ...فليكن سجناً
حقيقياً".
صفقت كارمن باب الخزانة بعنف وواجهته بنظرة صارمة ,ولم تنطق
بكلمة ...فأبعدها عن طريقه وسحب شريط الهاتف وقطعه بعنف,
وتلفت يميناً ويساراً باحثاً عن جهازها الخليوي فوجده على
السرير ...فصرخت ,وكأن صرختها كانت ناتجة عن ألم جثماني
حاد
"-ما يترتﱠب على أي زوجٍ يقع في بئر الخيانة" ,أجابها من دون أن
ينظر إليها ,وأخذ هاتفها المحمول وخرج من الغرفة غاضباً ثائراً
كحيوانٍ بري.
ليلة سوداء حلﱠت على كارمن ,لم يغمض لها جفن ,أخذت تتقلﱠب
طوال ساعاتها على الشوك المزروع فوق الوســــــــادة وشـــــراشف
السرير.
ماذا سيحل بها وإلى أين سيصل خالد برد فعله هذا? هل سيسجنها
بين حيطان المنزل وال يسمح لها بالتواصل مع أحد? نعم فاألمر
ليس صعباً عليه البتّة.
32
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
على ماذا ينوي خالد? سألت كارمن نفسها هذا السؤال من دون أن
تجيبه بحرف ,فمد يده مداعباً شعرها فابتعدت خطوة إلى الوراء,
فاستطرد يخبرها عن قراره
" -سنسافر الليلة لقضاء عطلة نهاية السنة .سنمرح كثيراً
ونستمتع بوقتنا ".
لم تتوقع موقف خالد ,فقد كان رد فعله فائق العادة وغريب عن
المألوف ,أهذا زوجها? لبرهة شكﱠت كارمن باألمر...
" -ماذا تريد يا خالد?" ردّت والذهول يعصف بها ,فضحك ضحكة
ماكرة عالية وكأنه مشعوذاً حقيراً ,ورقﱠص حاجبه األيسر مجيباً:
"-لن أدعك تفسدين المفاجأة التي أعددتها لك ...ادخلي غرفتك
واستعدّي ورودي الصغير للسفر ...هيّا يا عمري ...هيّا ...فالعائلة
السعيدة ستقضي عطلة جميلة ...هيّا".
وما كانت إال ساعات وخالد قد حجز تذاكر السفر وعاد إلى البيت
الصطحابها حتى لو استدعى األمر إلى القوة ,كي ينفّذ بداية
انتقامه من كارمن.
33
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
رفع نوح رأســـــه عن وسادة األمل واغتسل بماءٍ دافئة وارتدى كعادته
مالبس أنيقة ,ســـــرﱠح شعره وتعطﱠر بعطرٍ باريسي ,وخرج من المنزل
قاصداً بعض المتاجر الفرنسية لشراء الهدايا لكارمن ورودي الذي
يتشوق لرؤيته ...فكارمن كانت دائماً تخبره أنه صورة عنها.
لم يتصل بها طوال اليوم بسبب انشغاله وانهماكه بمعامالت السفر
وشراء الهدايا واألغراض التي سيحتاجها خالل إقامته القصيرة في
لبنان ,وما كان يدرك ان كارمن أُبعدت عنه ,ربما إلى األبد!
" -إلى أين سنسافر?" سؤال طرحته كارمن فور دخول خالد عليها,
وأضافت قائلة وقد بدأت متألمة" :لماذا تفعل بي هكذا?".
ابتسم خالد بوجهها ابتسامة ربما تكون ماكرة مجيباً على سؤالها
األخير" :البد يا كارمن تظنين أنه ليس لدي قلب على اإلطالق".
نظرت إليه في حزنٍ صامت والدموع في عينيها" :ال خالد ,أعلم أن
لديك قلباً ,ولكنه ليس مكرّساً لي ومنذ زمن بعيد".
إنها المرة األولى التي تحدثه كارمن بهذه الصراحة" :ال يا خالد,
الحب هو اهتمام الشريك بشريكه في الدرجة األولى ...فأنا أشعر
منذ بداية زواجنا أنني قطعة أثاث مزروعة في منزلك ,ما عاد
ممكناً االختباء خلف الكلمات ...لم يتبقَ لدينا شيء ,كل ما بيننا هو
34
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
رودي ,وإذا انفصلنا سيعيش فترة معي وفترة معك ,لن أحرمك منه
ولن تحرمني من رؤيته ,هو ما زال صغيراً وسيتعايش مع الوضع".
وتابعت" :لن نكون أول زوجان ينفصالن ,خالد أنا أريد أن أضع حدّاً
لزواجنا اآلن ,إذا ما تريثنا أكثر أو استمرينا في القيام بما نفعله,
سوف ننتهي إلى أن نكره بعضنا البعض ,وال أريد أن يحدث ذلك
لنا أو لرودي".
35
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
وما كانت إال ساعات وطار خالد بعائلته إلى تونس ,وانصرف الخدم
بإجازة طويلة وساد الصمت أنحاء المنزل الكبير في وسط المدينة.
36
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
Chapter 4
37
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
خالد أبو الشريف على غضب وحنق وقلق وجنون ,لم يكن السبب
هو أنه اكتشف أن لزوجته صديق ,بل ألنه شعر باإلهانة عندما
سمعها تتحدث مع هذا الصديق عن صفاته السيئة وتصرفاته
المزعجة.
لقد كانت ال تزال على ثقة بأنها مهما كان األمر مؤلماً ألبنها فمن
األفضل أن ينفصال عن بعضهما البعض.
38
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -من حقي أن أكلّم أفراد عائلتي ,أنا لست بامرأة مقطوعة
التقطتها من الشارع .لم أخطئ في حقك ولم أطعن بشرفك" ,بدت
كارمن جادة وصارمة في كالمها .راح خالد يفكر بصمت وقلق
ووجوم ,فكان خالد يهاب السيد توفيق األسعد والد كارمن ,فهو من
مدّه بالمال لتأسيس نفسه ,وفضله كبير جداً عليه ,فهل يسمح لها
بالحديث معه? فإن فعل واتطلع السيد توفيق على ما يحدث ,حتماً
سيقف إلى جانب ابنته ضده.
ولم يطل صمت أبو الشريف ,فعاد إلى الكالم ليقول" :ماذا ستقولين
لوالدك? زوجي أراد قضاء عطلة رأس السنة معي في تونس وأنا ال
أريد ألنني قد وعدت رجالً آخر بقضاء هذه العطلة معه في
بيروت?" .قال ذلك وراح يدخن لفافة وشرارة الغضب تشعّ من
وجهه.
" -هذا الرجل الذي تتحدث عنه ليس سوى صديق" .أجابته مدافعة
عن شرفها ونزاهتها.
خالد على حق ,ال يجب عليها أن تدّخل والدها في مصيبتها ,ألن
خالد سيفوز بإقناعه ,ومها يكن ,لن يستطيع أحد أن يتفهم سبب
العالقة التي تجمعها بنوح ,بهذا فكرت كارمن وقطعت الجدال
واستدارت ودخلت غرفة رودي ,وطبعاً ستشاركه الغرفة ,فبعد ما
حدث بينهما واتخادها لقرار االنفصال ,لن تشارك خالد بعد اليوم
غرفة نوم واحدة وسرير واحد.
39
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
40
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
وإذ بنوح يلتقي بأحد المارة أمام منزلها استوقفه وسأله" :لو
سمحت ,هل هذا منزل السيد خالد أبو الشريف?".
" -ربما ولكن لست متأكداً من ذلك ,تستطيع أن تسأل صاحب هذا
المتجر" ,أجابه الرجل وانصرف .فتوجه نوح كالصاروخ إلى صاحب
المحل التجاري ودخل عليه بابتسامة لبقة وسأله عن السيد خالد
أبو الشريف ,وقال له إنه قد وصل من فرنسا حامالً غرض لزوجته
من قبل عائلتها .فصعق وشعر بخيبة أمل كبيرة عندما أخبره
صاحب المتجر أن خالد أبو الشريف قصد متجره لشراء األغراض
وأخبره أنه مسافر برفقة عائلته الى الخارج.
حاول نوح أن يعرف منه اسم البلد الذي سافر إليه ,ولكن صاحب
المحل التجاري لم يكن يعرف ,فشكره وخرج.
41
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
الشارع وفقد الوعي ,وما عاد قميصه أبيضاً بل صار أحمر اللون
غارقاً بالدم.
كان هناك جرحان عميقان على جانب وجه نوح وجسده مهشﱠم.
كانت عيناه مفتوحتين وبدا ميتاً ,ونظراً إلى كمية دمه الذي لطخ كل
ما حوله كان من المستبعد أن يفكر أحداً بأن هذا الرجل قد ينجو.
" -هل تعرفه?" سأله أحدهم فأجاب" :نعم .إنه من أقرباء جارنا
السيد خالد أبو الشريف .هيا لنطلب اإلسعاف".
فكان رقم خالد يعمل دولياً .وما هي إال ساعة واتصلوا بخالد
وأعلموه بتفاصيل الحادث.
42
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -ال نعلم ,فهو ما زال لغاية اآلن على قيد الحياة .ويبدو أنه تعرض
إلصابات بالغة جداً".
فعاود خالد طرح السؤال ليأخذ توضيح حول حالة نوح فأجاب رجل
الشرطة" :حسب التقرير الذي وصلني يا سيدي أنه ال يزال غائباً
عن الوعي وحالته خطيرة أيضاً".
لقد خطر لخالد وهو يصغي إليه ,احتمال أن يموت من دون أن
يتمكن من معرفة حقيقة وصول هذا الرجل إلى منزله ,فهل وصلت
به الوقاحة ليزورها في المنزل?
كان هناك ألف احتمال وسؤال يدور في رأسه .وما كان بإمكانه
معرفة أي جواب على أي منها ,وخاصةً إذا لم ينجو من الحادثة.
فعاد مسرعاً إلى المنزل ووقف بمواجهة كارمن ,هل يطلعها على ما
حدث ويزيد من جنونها وتوترها? ال ,ففرصة االنتقام وصلت إليه
ولن يضيعها من يده.
" -إن كنتِ تودين العودة في صباح الغد إلى بيروت ,عليكِ أن
تستعدي لالحتفال بسهرة عيد رأس السنة".
43
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -ألهذا الحد أنتٍ متشوقة لرؤيته?" ,سألها ببرودة أعصاب ومكر,
لقد كان واضحاً أنه كان مستاءً للغاية.
" -ال أريد استباق األمور انتظري إلى أن نعود إلى بيروت" ,قال
خالد واستدار وخرج من المنزل ليحجز تذاكر العودة.
الليل أسود الجبين يلمع بالمطر المنهمر بغزارة ,والعواصف العاتية
الهوجاء تعربد وتولول وترسل صفيراً مخيفاً يذهب صداه إلى
البعيد ,والبرد قارسٌ السع يزيد في وحشة الليل وكأبة الظالم.
44
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
وهناك على شرفة المنزل التونسي جلس خالد أبو شريف وزوجته
كارمن ليقضيا سهرة رأس السنة الغريبة.
وبينما أخذت الزوجة تصب كأس المشروب لزوجها بناءً على طلبه,
سألها بصيغة األمر" :هيا كارمن ,فأنا كلّي آذان صاغية لك لتروي
لي قصتك مع نوح هاشم ,البد أنها ستكون قصة مثيرة" .ومن دون
خوف أو تردد راحت تقص على زوجها حكايتها مع نوح ,أخبرته عن
حفلة توقيع كتاب الصديق أوليفيه سورون ,وكيف التقت بنوح وكيف
اصطحبها إلى مطعم ليسبادون ) (Les padonوبعد سفرها انقطع
االتصال بينهما أليامٍ وأسابيع طويلة إلى أن عاود االتصال بها
وولدت بينهما الصداقة ,وأخذت تنمو من خالل المكالمات الهاتفية
المتكررة يوماً بعد يوم.
كان يصغي إليها وشرارة الغيرة تعتصر قلبه وتنهش في روحه ,كانت
كارمن تتحدث من دون حرج ألنها ومن وجهة نظرها لم تخطئ ولم
تقم بأي عملٍ مشين يسيء إلى سمعتها كسيدة متزوجة .وأوضحت
له ذلك خالل سردها لألمور .وقالت له بعد ذلك" :لقد كنت يا خالد
بحاجة لصديق أكلمه وأرمي بحمولي عليه ,وإذا كنت ترى أن
صداقتي بنوح غلطة ارتكبتها فأنت من عليه أن يتحمﱠل مسؤولية
هذا الخطأ ,ألنك وببساطة لم تكن قريباً مني فكان عليك ,ومنذ
زمن طويل ,أن تمأل الفراغ الذي يرافق أيامي الطويلة التي تمرّ
بتثاقل".
كانت كارمن تنتظر من خالد بعد حديثها الطويل أن يبادلها نظرة
عطف وتفاهم .ولكن خالد ضحك ضحكة سوداء وهزء" :أتظنين
أنني مراهق يصدّق ما سردته في قصصٍ بلهاء?" ,قال هذا ,وعلى
رغم أنه كان يعرف أكثر من أي شخص آخر درجة الوحدة التي
45
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
ظلﱠ خالد على الشرفة يدخّن سابحاً بأفكاره ,متأمالً منظر المطر
الذي كان ينهمر بغزارة خلف الزجاج الذي يلف الشرفة.
وقف يحدّث نفسه ويقول" :وما بالي أسعى إلى شقائي? ,وهل
يستحق األمر كل هذا العناء والتحرق على امرأة ساقطة خانتني مع
رجل آخر? أأنا الرجل األول الذي أصابه على يد زوجته هذا
البالء?".
إنه ينوي االنتقام ,لقد حسم هذا اآلن ,لن يفسح المجال لكارمن,
لن يدعها تنعم بحرية واستقالل.
46
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
بعد ساعات سيعود إلى بيروت وستكون حياة نوح بين يديه ,فإذا
مات إثر الحادث سيكون قد ارتاح ,وإذا لم يمت فسيلقنه درساً لن
ينساه طوال حياته.
47
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
Chapter 5
ﺷﺮوع ﺑﺎﻟﻘﺘﻞ
48
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
خالد عزم على المضي بقراره ,وظلّ هذا القرار مجهوالً بالنسبة
إلى كارمن التي أخذ اليأس يتسرﱠب إلى صدرها ,وأخذت أنفاسها
تضيق عندما وصلت منزلها في وسط بيروت ورأت األبواب قد
أوصدت عليها ,فممنوع عليها المغادرة أو استعمال الهاتف.
49
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -ال يمكننا التكهن اآلن بما سيحدث .فمن السابق ألوانه أن تعرف
اآلن ما ستؤول إليه حالته" ,أجابته الممرضة بصوتٍ خافت حرصاً
على سالمة المريض.
" -هل ثمة طبيب هنا أستطيع التحدث إليه?" سألها خالد من دون
أن تبدو عليه أي عالمات عاطفية.
" -لقد غادر الطبيب المسؤول عنه لتوه .ولكنني سأُعلم الجراح
بوجودك" ,قالت الممرضة ذلك وهي تمر بجانبه خارجة من الغرفة.
لم تشعر الممرضة بالراحة بسبب موقف خالد إذ كانت رؤيتها لنوح
تمزّق قلبها .لقد كان نوح على رغم إصابته رجالً وسيماً وشاباً
للغاية ,ولكن هذا الرجل الذي وصل لرؤية قريبه بدا فاقداً
اإلحساس تماماً .ولم يحصل أبداً إن التقت بشخصٍ على مثل درجة
البرودة التي عليها خالد.
50
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
وفي نهاية المطاف اجتمع الجميع عائلة نوح وأصدقائه على فكرة
تكليف السفارة الفرنسية في لبنان في البحث عنه.
وما كانت إال بضعة أيام وعلموا بالحادث األليم الذي ألمّ بنوح,
وسافرت سارة إلى لبنان لالطمئنان على سالمته والمكوث إلى
جانبه .فقد كان هذا غير متوقعاً لخالد ,لقد ذهل عندما وجد
زوجته الفرنسية في المستشفى .فالخطّة التي رسمها لالنتقام لن
تنجح ما دام أحداً من افراد عائلته قد وصل للتكفل به ,أي أنه لن
يتمكن من االنفراد بنوح والتحكم فيه بعد رجوعه إلى وعيه التام.
وراح يدعو له بالموت!
51
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
وذات يوم بينما كان خالد جالساً في مكتبه منهمكاً بأعماله رن
جرس هاتفه وكانت سارة .فطلبت منه مقابلته بكل لباقة .لم يرفض
مقابلتها ألن فكرة ما جالت في رأسه فور سماع صوتها .فخالد قرر
المضي في خطته ,ولكن بطريقة مختلفة.
طباع سارة األوروبية جعلته يتعجب فبعد ان سرد عليها قصته مع
زوجها ,وكشف لها قصة مبالغٌ فيها تجمع بين كارمن ونوح ,بادرته
بالقول" :عذراً سيد أبو شريف ,فأنا ال يمكنني اتخاذ أي قرار عن
زوجي واحترم خصوصيته ,وأفضّل انتظار نجاته واستعادة وعيه
ليقوم هو بالتصرف واالتفاق معك".
جوابها له كان كالسدّ لطريق انتقامه .وتابعت قائلة" :أنا لست هنا
للحديث عن مشكالتك .لقد طلبت مقابلتك ألشكرك على االعتناء
52
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
كان كالمها كسيفٍ حاد يدخل ويخرج إلى جسده ويمزّق لحمه بعد
أن ظن أنها سترة النجاة للوصول إلى ما يرسمه .فأخذ الغضب
الشديد يسترقه ويستبعده ,فتركها وحدها في المقهى حيث التقيا
على فنجانٍ من القهوة وخرج كالمجنون متوجهاً إلى منزله.
فتح باب المنزل بالمفتاح وأوصده جيداً بعد دخوله وأعاد المفتاح
إلى جيب سرواله ,وراح يبحث في أرجاء المنزل عن كارمن ,وأثناء
ذلك قفل بالمفتاح على رودي وحجزه في غرفته.
كانت كارمن في هذه األثناء تغط بنوم عميق ,والساعة آنذاك تشير
إلى الرابعة بعد الظهر.
رودي يشاهد الرسوم المتحركة ,وخالد قام برفع صوت التلفاز قبل
حجزه بالغرفة منعاً ألن يسمع أي صوتٍ قد يصدر.
وقف خالد أمام سريرها ونيران الغضب تطل من عينيه .ومن دون
أن ينطق بحرف ,مسك بقبضة يده شعرها األحمر ورفع رأسها.
استفاقت كارمن على ذعر وخوف
" -ماذا حلَ بك يا خالد?" ,قالت ذلك بصوت مخنوق ,فراح يبرحها
ضرباً كالمجنون وهو يردد
" -لن تكوني سعيدة ما حييت ,عهدٌ عليّ أن أجعلك بائسة طوال
حياتك ,أيتها الساقطة الغبية ,شرفٌ كبير لك أن تموتي اآلن بين
يدي" .وأخذت كارمن تصرخ وتطلب منه الرحمة ,وكلما تفوهت
بحرف كانت الضربات والشتائم تنهال عليها.
53
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
أي مصيبة وقع فيها وإلى أين أوصله غضبه? تنفﱠس خالد نفس ًا
عميقاً وحملها نحو الحمام وغسل لها وجهها ,وراح يمسح وجهها
وشعرها بقطرات العطر لتستعيد وعيها.
"يا إلهي ستموت كارمن" .قال بصوتٍ عالٍ من دون وعي .فإذا
أصابها مكروه سيحوﱠل للقضاء ,فما فعله هو شروع بالقتل وعقابه
اإلعدام شنقاً .وإذا ادعى أنها خائنة وأقدم على ضربها دفاعاً على
شرفه ,لن ينجح ألنه ال يملك أي دليل يستند إليه .لماذا وصلت
األمور إلى هذا الحد? وهنا أدرك تماماً عندما رأى كارمن جثة
أمامه أنه قد أفرط في غضبه ,وأن غلطها أصغر بكثير من ردّ
فعله .تبخّر جزءٌ من الغضب ,وجزءٌ من القسوة وبقي الخوف
بكامله ,فحملها إلى سريرها وراح يدلّك يديها الباردتين ويحاول
الحديث معها كي تستفيق وتعود لوعيها.
تناول الدكتور سعد حقيبة جلدية كانت على المقعد الخلفي ,وترجّل
من السيارة متجهاً نحو باب سجن كارمن.
54
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
كان الباب قطعة مُتقنة الصنع من خشب قديم ومطليّاً بعناية بلونٍ
كستنائي لمّاع .وقبل أن يضغط الطبيب على ذاك الزرّ النحاسي
الموجود على يمين الباب ,فُتِحَ الباب قليالً وظهر وجهٌ ينظر إلى
الخارج.
يا لهذا الوجه! كان محاطاً ببشرة شاحبة ,أعاله عينان مرعوبتان,
وبعد أن فوجئ الطبيب بتعابير وجه خالد سأله:
قضى التخدير على األلم ,واستقرﱠت كارمن في حالة هادئة ,كان من
الصعب وصفُ شكلها بدقّة ,لحظات قليلة وشعرت كارمن بدوارٍ
وغابت من جديد عن الوعي.
55
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
الخوف الذي كان يتملّك خالد جعله يخرج من المطبخ ,تاركاً آثار
جريمته الشنيعة مطبوعة على معالم كارمن.
فتح خالد باب غرفة رودي ,فوجده يبكي بصوتٍ أعلى من صوت
جهاز التلفزيون.
تلعثم رودي وتحوّل بكاءَه إلى سعال وكحّة .فتقدّم خالد منه وقال له
برفق" :ال تبكي يا بني وخذ نفساً عميقاً ,ثم أخبرني عن سبب هذا
البكاء".
قبل أن يكمل خالد كالمه البنه وصلته اإلجابة ,فرودي قد تبوّل في
ثيابه ,وبسبب خوفه من التوبيخ أخذ بالبكاء ,ولكن ردّ فعل خالد
كانت بعكس العادة ,أخذه في حضنه وطبطب على ظهره مطمئناً
وحيده أن األمر سيكون على ما يرام.
-ال عليك يا حبيبي ,سندخل أنا وأنت الحمّام اآلن وأغسل
لك جسمك الصغير بالماء والصابون المعطّر الذي تحبه,
وسنختار بعدها المالبس التي تفضلها كي ترتديها.
-أين ماما?
سأله رودي بصوتٍ يشهق بالبكاء.
56
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
-حتى وإن كنتُ صديقاً لزوجك ,هذا ال يعني موافقتي على
ما فعله بكِ.
فردّت عليه ببطئ وبصوتٍ أنفي باهت:
عاد خالد إلى المطبخ ووجد صديقه الطبيب منهمكاً بغسلِ يديه
في الحوض ,فيما كانت كارمن تساعد نفسها على النهوض
والخروج من المكان ,فحاول أن يساعدها فصدّته بنظرة لوم.
57
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
انتظر خالد والطبيب عشر دقائق ريثما صعدت كارمن إلى الطابق
األعلى ألخذ حمّاماً دافئاً وتبديل مالبسها ,سمعا صوت الماء يسيل
ويتوقف ,ثم صوت الباب وخطوات نحو الغرفة.
وعاد خالد بعد دقائقٍ قليلة ,وجلس بقربها ,وعمّ الصمت المكان,
فقطعته بعد قليل قائلة لخالد وبنبرةٍ ضعيفة:
" -خالد ,أنا أريد الطالق فوراً".
فنهض وتركها كما طلبت منه وسار نحو غرفة رودي ,حيث وجده
نائماً وسط غرفته أرضاً والتلفاز ما زال يعرض الرسوم المتحركة.
فحمله إلى السرير وقبﱠل رأسه بعيونٍ دامعة ,نعم ,خالد أبو الشريف
أخذ يبكي.
58
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
نادراً ما كان هذا الرجل يبكي ,فآخر مرة بكى فيها عندما توفيت
والدته كان اثناءها عازباً فتياً ,أما يوم وفاة والده لم تنزل من عينه
دمعة.
59
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
Chapter 6
ﺣﻀﺎﻧﺔ رودي
60
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
غطﱠت عين خالد بعد سهرة طويلة في الصباح ,أما رودي الذي
استفاق بعدها وسحب نحو كارمن .وعندما رأى الكدمات العنيفة
على وجه وجسم والدته صرخ خوفاً.
وما كان باستطاعة خالد إال تلبية طلبها والنزول عند رغباتها.
61
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -الطالق أوالً يا خالد ,ليس هناك من شيء نتفاهم عليه .ال أريد
سوى حريتي ألعيش وابني بسالم ...وأنا على استعدادٍ تام بأن
أتنازل عن جميع حقوقي الزوجية مقابل حريتي" .قالت هذا بنبرة
جادة.
62
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -ال يزال بإمكاننا أن نسعى إلنجاح األمر إذا ما رغبنا في ذلك"
أجابها خالد ,ولكنه لم يكن متأكداً من ذلك بقدر ما كان يريدها أن
تفكر بهذا األمر.
" -أعيد إليّ هاتفي وأعد أسالك الهاتف .كفاك رجعية وتصرﱠف
كرجلٍ عصري .فهل تظن أنك بلغة العنف والحَجِر ستحلّ
المشكلة?".
لم يتأخر خالد عند تلبية طلبها وأعاد إليها هاتفها المحمول ,وعاد
ووصل أسالك الهاتف إلى مكانها .واقترب منها قبل مغادرته
المنزل قائالً:
لقد فتح خالد لها باب القفص .فهل تطير كارمن لتغرّد بعيداً عنه?
ركضت نحو غرفتها واستلت سمّاعة الهاتف وطلبت من دون وعي أو
تفكير رقم هاتف نوح .ولكنها وجدته مغلقاً.
إلى من تتصل لترمي بحملها عليه وتفرج قليالً عن همها? هل
تتصل بعائلتها?
63
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -ماذا تقولين يا كارمن? أنتِ تنوين المكوث في الفندق ومنزلي في
لبنان موجود? سأتصل اآلن بوالدتي لتجهز لك المفاتيح ,مرّي عليها
وخذيها وانتقلي إلى منزلي ,فرودي لن يرتاح ولن ينعم بالحرية في
الفندق أبداً" ,ردت سلمى وكانت بغاية التعاطف معها.
" -هناك ألف سائق يتمنى توصيله يومياً إلى المدرسة وإعادته إلى
المنزل ,ال تختلقي األعذار لو سمحتي ,فأنا أفهمك جيداً ,هيا
وافعلي ما قلته لك بسرعة".
رن هاتفها لمرات عديدة وطويلة ,كارمن رفضت الرد على خالد,
فهي باتت ال تريد سماع صوته بعد اليوم .فليفعل ما يشاء ,فخالد
لن يقدم إلى عملٍ مشين يفوق ما فعله ,لقد ضربها بل أبرحها
ضرباً ,فهل هناك فعل أكثر بشاعة من هذا?
64
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
ولكن ماذا لو طلبها إلى بيت الطاعة? سؤال لمع في خاطرها وكأنه
كوب ماءٍ ساخن تلقته على وجهها:
" -يا إلهي ماذا أفعل?" تمتمت والخوف يعتصر قلبها .فراحت تسير
في أرجاء المنزل تتكلم مع نفسها.
نعم .حتى لو ذلك سيكون قاسياً على مسمع الوالد ,فكان عليها أن
تقول له ذلك ,فاتصلت به وقالت له كل شيء .أطلعته على قصة
عذابها بالكامل.
سارع توفيق األسعد إلى بيروت عند أول رحلة طيران .وتوجه نحو
الرابية مباشرة للقاء وحيدته كارمن.
65
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
وما إن رأى توفيق ما رآه ,طلب خالد وتحدث معه بلهجة قاسية ,لم
يتوقع قدوم عمّه إلى لبنان أو على األقل بهذه السرعة.
" -أجب على سؤالي يا خالد ...أين أنت?" لم يكن هناك أي مجال
عند توفيق ليفسح لخالد المجال للمجامالت.
قال توفيق بلغة األمر وقطع االتصال .ثم رفع نظره إلى كارمن
وبادرها بابتسامة تطمئن قلبها قائالً بحنان لها:
" -سيكون كل شيء على ما يرام يا حبيبتي ما دمت أنا على قيد
الحياة".
لم تمضِ النصف ساعة ,وكان توفيق األسعد واقفاً أمام باب منزل
خالد ابو الشريف وشرارة الغضب تشع من عيناه.
" -حمداً لله على سالمتك يا عمّي" .بادر خالد بالقول عندما فتح
له الباب.
66
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -شكراً" أجاب توفيق بجدية وجفاء وتفضل بالدخول قبل أن
يدعوه خالد إلى ذلك .وجلس على كنبة الصالون ,ليجد على
الطاولة صينية عليها فنجان من القهوة".
" -ما فعلته يا خالد بابنتي لن اصفح لك عنه ولن أسامحك عليه ما
حييت ,سنذهب اآلن سوياً إلى المحكمة لتطلق ابنتي .فأنا ال أسمح
ألي كان أن يعيش مع ابنتي تحت سقف واحد إذا فعل ما فعلته انت
بها" ,كان جاداً وحازماً بقوله.
" -ولكن يا عمي أنا "...فقاطع توفيق كالم خالد قائالً بنبرة غاضبة
عالية:
خالد لن يخسر كارمن ولن يدع ضغط عمّه يهدم حياته الزوجية,
فأخذ خالد نفساً عميقاً وتجرأ وقال:
" -آسف يا عمي ,لن أستطيع االنفصال عن كارمن أبداً .فإذا انتهى
زواجي أكون قد انتهيت .لن أطلق ابنتك".
67
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
وأدرك توفيق أن المال وحده يفك عقدة لسان خالد ويجعله يخضع
للطالق ,فأخرج من جيبه دفتر التوفير ووضعه أمامه ورفع وجهه
قائالً لخالد:
ظن توفيق األسعد أنه بالمال سيمدّ سلطانه على خالد ويرغمه على
تنفيذ جميع أوامره .فالمال هو السيد المطلق ,وما لصاحب المال
إال أن يأمر .وما على خالد بحصوله على مبلغٍ محترم من المال إال
أن ينفّذ أوامر توفيق األسعد السامية.
" -مهما كان المبلغ الذي ستطلبه سأوافق عليه .هيا يا خالد ال
تتردد بالقول".
" -ال أريد ماالً ,أريد زوجتي وابني ,ولك منّي أن أعدك بحياة
جديدة وآمنة لهما".
ـ " كارمن ال تريد أن تبقى في حياتها الزوجية هذه ".
68
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
ـ "فوق عذابك لها تريد أن تعذبها بألم فراق ولدها عنها? ...أي
صنفٍ من الرجال أنت?".
لم يتوقع توفيق الشرط الذكي الذي وضعه خالد ,ألنه كان متأكد ًا
تماماً أن ابنته ستضعف أمام ذلك ,وربما ستعود إلى منزله خاضعة.
" -سأدفع لك مليون يورو" بادره توفيق آمالُ بطمع خالد وحبه
للمال .ولكن خالد قطع له الطريق .وظلّ مصراً على موقفه.
" -لقد أنذرتك ونصحتك ,ولن أكون مسؤوالً عما سيحدث لك,
كارمن ستخضع لفحص طبّي ,وأنتَ تعرف تماماً إلى أين ممكن
أصل بنفوذي يا خالد .وابنتي الغالية لن تعود إلى منزلك أبداً".
جلست كارمن تستمع إلى بيان والدها واآلالم تخنقها .فبادلها الوالد
نظرة العطف والتفاهم والحيرة وردد قائالً:
" -ال تحزني يا ابنتي .ففي القريب العاجل ستتحررين من عقد هذا
الزواج اللعين .وابنك الصغير الحبيب لن يفارق حضنك".
69
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -سأقتل هذا الرجل اللعين ,ليتني سمعت كالمك منذ البداية ,لقد
كنتَ معارضاً لهذا الزواج ,أنظر إليّ اآلن ,فأنا اليوم أدفع ثمن
عنادي وإصراري".
غمر الوالد ابنته التي انفجرت بعد قولها بالبكاء ,وراح يخفف عنها
بكلمات العطف ,واتصلت بها والدتها ورددت على مسمعها عبارات
من المواساة والتخفيف.
على كارمن أن تكون متأكدة أنها أقوى اآلن بالتفاف عائلتها ,ولكن
شعورها بفقدان حضانة ابنها جعلها تضعف وتنهار.
70
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
Chapter 7
اﻷب
71
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
خيّم الليل بجنحه فوق المدينة ,أُطفئَت أنوار البيوت ,وأطلﱠ نور
القمر بين الغيوم الملبّدة في السماء ,وفي تلك الساعة المملوءة
بسحر الهدوء ,جَلَس توفيق األسعد يدخّن غليونه الفرنسي يفكر في
حلٍ إلنقاذِ ابنته وتحريرها من عقد زواجها المشؤوم من خالد أبو
الشريف دون خسارة حضانة حفيده.
" -أما زلت مستيقظاً بابا?" ,سألته كارمن بعد أن خرجت من غرفة
النوم ووجدته جالساً على كنبةٍ في زاوية الصالون أمام مدفئة
الحطب .فبادرها بابتسامة عطف وأومأ برأسه.
" -ستظل عيني ساهرة ال تعرف النوم ما دام خالد زوجك ,ولكن
أريد أن أفهم لماذا أنتِ رافضة أن نلجأ إلى القضاء ,فبإمكاننا رميه
في السجن بسهولة".
" -ال أريد عندما يكبر ابني حين يسأل عن طالق والديه أن يعرف
أنني سجنت والده ,وال أريد أيضاً لخالد -بدافع االنتقام -أن يقول
له شيئاً يسيء إلى كرامتي ويجعله ينفر منّي ,فكل ما أريده هو
الطالق بهدوء ومن دون مشكالت في المستقبل".
تشاغل توفيق بتقليب فحم المدفأة بفرع شجرة سنديان ,محاو ًال
إخفاء ألمه على ابنته ,وألمٌ آخر يتصارع في أمعائه منذ ساعات.
في هذه اللحظة وأثناء حديثها شعرت أن والدها ليس بخير,
فقطعت كالمها عن خالد وسألته:
72
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
ـ "أيّ طبيب في وقتٍ متأخرٍ كهذا? أنا بخير يا حبيبتي ,وإذا البد
لك أن تفعلي شيئاً من أجلي ,قولي ألم عادل أن تعدّ لي فنجاناً من
األعشاب".
" -قررت أن أعقد معك اتفاقاً سيحلّ مشكالتك ,فإذا كنتِ تريدين
الطالق ,تعالي اآلن كي ننهي كل شيء بشكلٍ حضاري".
شعرت كارمن بالقلق بعد المكالمة ,ولكنها لم تستسلم لمخاوفها.
73
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -ماذا تريد أن تقول خالد ,وماذا عن هذا االتفاق الذي سيحرّرني
من قيودك?".
مطّ خالد شفتيه قليالً أمام طريقة سؤالها ,وهزّ برأسه موافقاً,
وابتسم بمكرٍ وكأنما راقه اهتمامها باالتفاق ,أو شعر بتحدﱟ غريب
إزاء الذي يفلسف طلبه ,رفع رأسه إليها وقال بهدوء وراحة:
" -قبل أن نفكّر أنا وأنتِ بمصيرنا وحياتنا بعد االنفصال ,يجدر بنا
أوالً التفكير بمصير طفلنا رودي ,انفصالنا المفاجئ سيصدمه".
لم تستطع كارمن أن تلوذ بالكتمان طويالً ,فخرج السؤال منها عنوة,
قالت:
" -هل تقصد أن علينا أن نبقى معاً إلى أن يكبر? هذا مستحيل".
" -ليس هذا بالتحديد ,أقصد أن نبقى معاً لفترة زمنية ربما تكون
قصيرة ,نهيئ فيها وحيدنا على فكرة االنفصال ,وأعدك خالل هذه
المدّة أال أقترب منك وال أتصرّف معك كزوج".
74
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -ابني حبيبي ما زال صغيراً ,وأنا أعرف كيف أمنع عنه صدمة
االنفصال".
" -رودي ليس ابنك وحدك ,أنا الوالد واألب ولي حق اختيار
الطريقة مثلك تماماً .أحضريه وارجعي إلى هذا البيت ,وبعدها
سأسافر في رحلة عمل إلى اإلمارات ,بعد عودتي تكوني قد
حضّرتيه نفسياً على الفكرة ,وعندها سنجلس معه سوياً ونعلمه
بقرارنا ,فإذا تقبّله يتم الطالق فوراً ,وإذا ال نؤجله ونحاول معه مرّة
ثانية وثالثة ,وسيتمّ ذلك بمنتهى الوعي والحضارة".
لم يعد لديها مجهود تبذله للحديث مع خالد ,فكّرت فيما سيحصل
بعودتها إلى سجنها مقابل الحصول على االنفصال ,ال مفرّ من
التنازل عن كبريائها ألجل رودي ,خالد يقتلها في كل حديث معه,
نظرات عينيه تفجعها ,هل تفكّر في االنتحار للتخلص من يأسها
الذي يتملّك روحها ,لكن من سيرعى ابنها ,فوجوده في حياتها
يصبّرها على مأساتها ,فأجابت:
75
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
نعم ,هي بحاجة لكوبٍ من القهوة ولوّ أنها بحاجة أكثر للنوم.
قررت في هذه الليلة بعد عودتها من عند خالد أال تفكر بما
سيحدث غداً ,ال تفكّر بزواجها البائس ,وال بعودتها المؤقتة مع
ابنها إلى ذاك السجن الملعون.
وفي طريقها إلى غرفة الجلوس ,أخذت كتاب "الشغف ) l es
"(pas s i onsالذي أهداها إياه نوح في نهاية لقائهما األول,
جلست على الكنبة وفتحت الكتاب وراحت تقلّب في الصفحات.
على الهوامش كان نوح يدوّن بعض المالحظات ,ويضع خطوطاً بقلم
الرصاص تحت الكلمات والسطور التي تعجبه ,وبينما كانت مسافرة
في جانبٍ من عالم نوح ,استقرّ نظرها على ورقة فارغة في الكتاب
تفصل بين فصوله ,كتب عليها ما كان في رأسه في ذاك الوقت
الذي لم يكن يعرف كارمن فيه.
"ال أظن أن هناك من أحد سيقرأ ما أكتب اآلن ,حتى زوجتي سارة,
ليس ألنها ال تفهم العربية ,بل ألنها ال تهتم بما أكتب أو أفكّر أو
أشعر .ولكن ال بدّ لي أن أعبّر من دون أن أستخدم أي حجاب يستر
عورة أفكاري.
76
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
فأنا قويّاً على الرغم من الكآبة التي أشعر بها ,وال يمكن لشيءٍ أن
يضعفني أبداً ,كل ما أحتاجه اليوم في وحدتي هو الوصول إلى
شخصٍ ما ومالمسته ,ليس بواسطة يدي فحسب وإنما بقلبي...
عندما يشعر كل واحد منّا بالوحدة ,فهذا ال يعني أنه وحده ,بل
محاطاً بأشخاصٍ سيئين".
تنشّقت كارمن بخار القهوة وجرّبت مذاقها ,كانت رائعة الطعم بعد
ما قرأته من كلمات ,وكأن ما دوّنه نوح على هذه الصفحة من
الكتاب كان عنها.
تماماً .إنها كذلك ,وستأخذ بها ليس ابتداءً من صباح الغدّ ,ولكن
من اللحظة.
77
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
المدرسة ,وأم عادل في هذا الوقت تكون في منزلها وال تعود إال
قبل عودة رودي بساعة لتعدّ طعام الغداء للعائلة.
78
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
Chapter 8
اﻟﻌﺸﺎء اﻷﺧﻴﺮ
79
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
تقرير الطبيب الشرعي أكّد أنه تُوُفِيَ إثر نوبة قلبية ,وجميع من
حوله أكّد أنه كان قبل وفاته شديد الحزن والقلق على وضع إبنته
كارمن ,ولكن ال أحد يعلم الحقيقة!
فأثناء زيارته األخيرة إلى منزل خالد أبو الشريف ,تناول فنجاناً من
القهوة أعدّه خالد بنفسه ووضع في الفنجان ثالثة قطرات من مادة
تختفي آثارها وتعطّل جهاز ضغط الدم فتسبب نوبة قلبية قاتلة بعد
حوالى العشر ساعات من تناولها.
80
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
وطوّق عنقها بذراعيه ,وارتجف فمه وحاول أال يبكي .فلو بكى ,ثار
خالد عليه وربما ضربه كما ضرب كارمن في السابق وشوّه معالم
وجهها الجميل.
التفتت كارمن إلى خالد وحدّقت به بعينين واسعتين وقد ظهر عليها
االستياء:
" -ما سبب هذه الزيارة اآلن?".
الخوف البائس الذي كان يستبدّ على وجه صغيرها جعلها ال تجرؤ
أن تعصي أمره .خرج من عندها إلى منزله بانتظار أن تلحق به,
81
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
مدّت إيزادورا يدها إليها حاملةً طعم األمل ,ثم عانقتها وودّعتها
وراحت كلّ واحدة منهما تحزم أمتعتها ,إيزادورا إلى باريس وكارمن
إلى السجن القديم.
82
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
عن أي دفئ يتحدث هذا الرجل ,وهذا البيت ال يمثّل لها سوى
القهر والخوف والعزلة.
على رغم غليان دمها ورجفان جسمها بادلته بابتسامة مماثلة وردّت
عليه ببرودٍ شديد:
ـ "أهالً بك خالد".
لم يردّ خالد عليها النشغاله بالنظر إلى كارمن الذي قال لها مغازالً:
" -بإمكانك بعد وضع األمتعة واالستراحة قليالً ,وبعد ذلك حضّري
وجبتان فقط من الطعام لي ولرودي ,ال تحسبي حساب السيّد خالد
ألنه سوف يخرج اآلن ويبيت في المكتب".
ثم استدارت ودخلت مع رودي غرفته وأغلقت الباب بهدوء.
" -أنا أتصرّف حسب االتفاق ,وال أظن بأن في ذلك مشكلة".
83
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -سنتناول طعام عشاءنا األخير كعائلة قبل أن أغادر ,وال أظن أن
هذا سيخالف بنود االتفاق".
لم ينتظر كارمن أن تقوم بأي ردّ فعل أو تنطق بموافقة أو رفض,
استدار وخرج من الغرفة .صفقت كارمن الباب وراءه وأسندت
ظهرها عليه ,وضغطت بأصابعها على صدعيها محاولة تسكين ألم
صداع رأسها الشديد الذي سبّبه لها كالمه المستفزّ.
84
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -ال أنا فعالً وصلت إلى بيروت ,أين أنتِ اآلن? في منزلي?".
وقبل أن تنهي المكالمة ,أكّدت لكارمن أنها ستأتي بعد وقتٍ قصير,
ريثما تنتهي من المطار وتضع أمتعتها في منزلها.
85
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
كان صوت كارمن على الهاتف متوتراً ومتقطعاً يعتريه الكثير من
الخوف والقلق ,ما جعل سلمى تتوقع أن ثمّة مأزقاً آخر وقعت
صديقتها فيه.
لم تلبث إال دقائق معدودة ,فإذا بكارمن تطلع من خلوتها ,وأعالم
االبتسامة ترفرف على وجهها ,ويبدو واضحاً أن ابتسامتها هذه
معصوبة على شفتيها ,فهناك أشياء يستحيل أن يمارس فيها الغشّ
أو الخداع مهما بلغنا من حدّة وذكاء في دروس التمثيل.
جلست العائلة على طاولة العشاء األخير ,الذي عمّه الصمت في
بدايته ,كان خالد مركّزاً بنظره على زوجته التي تبدو غير مكترثة
وترافقها عالمات السعادة.
86
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -اليوم وخالل هذا العشاء أنا أسألك ,ألنّي مهتمّاً باإلجابة".
أجابت من دون تفكير.
" -أنا ال أكرهك خالد ,فاإلنسان عندما يكره ,يكون كرهه ألشخاصٍ
يعنون له ,وأنت ال تعني لي بشيء ,ولكن إن طلبت أن أحدد لك
مشاعري ,فالجواب الطبيعي هو ,أنا أحتقرك".
" -ال بل سأبقى هنا لعدّة أسباب ,أولها رودي ,إذا اصطحبته إلى
باريس ستراوغ باالتفاق وتتحجج به ,وال أستبعد أن تمنع سفره".
87
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -والدي ـــ رحمه الله ـــ ترك لي ميراثاً كبيراً جداً ,وأريد استثماره
واالستفادة منه".
" -إنها مجرد وجهة نظر ,أعرف نفسي جيداً ,وأعرف مع من
سأتعامل بمشاريعي الجديدة ,على كل حال ,هذا كالم سابق ألوانه".
" -حدثني والدي قبل وفاته أن هناك أرض كبيرة باسمه في الشمال
استثمرتها منه إلنشاء مشروع ,ومدّة االستثمار ستنتهي بعد فترة
قصيرة ,ما مصير هذه األرض?".
يا لهذا السؤال الذي أرهق شموخه أمامها ,وعلى رغم أنه حاول
جاهداً عدم ظهور ذلك ,إال أن العكس كان واضحاً تماماً ,فأجاب
بصوتٍ متقطّع بعد أن شتم بصوتٍ خافت:
" -فترة االستثمار لم تنتهِ بعد ,والحديث في هذا األمر سابق
ألوانه".
88
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
فابتسمت وأجابت:
" -ال تأبه عزيزي ,فهذا مجرّد حديث ,فأنا عند انتهاء المدّة لن
أطالبك بها".
" -ألهذا الحد تجدني سطحية وغبية ? بالطبع لن أتنازل ألحد عن
أي شيء تركه الغالي توفيق األسعد ,بل أقصد في كالمي أن
المحامي هو من سيتابع في األمور التي تتعلّق باألمالك".
خسارةُ هذه األرض تعني الكثير لخالد ,ألنها ستضعف الجزء األكبر
من أعماله ,وربما تسبب له خلالً كبيراً في مستقبله المادي .فمن
أين حلّت هذه المصيبة التي لم تكن في الحسبان?
89
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -رودي لن يعيش بعيداً عني لحظة واحدة ,وأنا اليوم أنفّذ اتفاقي
معك على هذا األساس".
من شدّة غضبها من اتهامه لها ,قذفته بشوكةٍ تفادى منها بسهولة,
وأصابت الحائط وراءه ,وقالت صارخة بعد أن وقفت:
" -كفاك يا خالد ,لقد تعدّيت سقف تحمّلي ,لم أعد أحتمل هذه
االفتراءات".
" -خذي رودي إلى غرفته ,سأدخل الغرفة اآلن ,وبعد خروج السيد
خالد من هنا أعلميني".
90
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
لم تنتظر من أم عادل إجابة ,وسارت نحو باب غرفتها ,ومدّت يدها
نحو مسكة الباب لتفتحه ,فأمسك خالد بمعصمها قائالً:
" -أنت من عليه أن يتذكّر ,ألنك أنت من تسيء إلى سمعتي ,هيا
انصرف اآلن".
فأمسك ذقنها بأصابعه ,ونظر إلى عينيها مباشرةً:
" -إن كنتِ تعتقدين أن خيانتك لي ستمرّ مرور الكرام ,فمن المؤكد
أن اعتقادك زائف ,كارمن ,ليس لدي وقت لمثل هذا الهراء اللعين,
ومهما تكن اللعبة التي تفكرين فيها ,أريدك أن تصرفيها من ذهنك,
ألن مصير حضانة ولدي بيدي ,تذكري هذا جيداً".
" -ال تتمادى في تعليق آمالك على حضانة الطفل ,لديّ خططي
الخاصّة ,وليس لك في حياتنا المقبلة مكان".
ثم دخلت الغرفة وسفقت الباب وراءها بقوّة ليبقى خالد وحده
واقفاً عند الباب.
فهل أخفق بتصرّفه الدنيء هذا? أم استخدم الورقة الرابحة بمكانها
الصحيح?
91
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
Chapter 9
ﻟﻘﺎء ﺟﺪﻳﺪ
92
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
قبل أيام من ليلة العشاء األخير ,دخلت سارة غرفة نوح في
المستشفى ,فاستقبلها مبتسماً:
" -أظن أن الوقت قد حان لخروجي من هنا ,فقد مرّ عليّ وقت
طويل في المستشفى ,وبما أن الطبيب لن يعارض ذلك ,اذهبي
وسددّي الفواتير لنخرج على الفور".
صمتت سارة للحظة وكأنها تحاول إيجاد طريقة لتخبره ما يجول
في ذهنها لنوح ,ثم قالت:
" -ماذا قلتِ? كيف ذلك يا سارة? ولماذا أخفيتي عنّي هذا األمر?".
93
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -لستَ مضطراً للكذب ,فأنا أعرف من هو هذا الرجل ,إنه زوج
عشيقتك".
" -أووه ,حسناً ,على أي حال ال يهمّني أمركما ,وال تهمّني مغامراتك
العاطفية ,ولكن على ما يبدو أن األمر يهمّ خالد ,فالرجل على
استعداد أن يقوم بأي عمل يؤذيك ,احترس منه".
***
فتحت كارمن باب شرفة الغرفة ,وجرّت كرسي كي تجلس عليه في
الهواء البارد الطلق ,أرادت أن تشعر بحريّة ولو كانت غير حقيقية,
أرادت أن تتنشق بعضاً من األوكسيجين الذي افتقدته في الداخل,
ثم عبثت بشعرها نسمة باردة ,وتيسّر لها أن تشتمّ رائحة األرض,
فارتخت عضالتها وراحت تبكي بحرقة ,فبقدر القوّة التي ظهرت
عليها أمام خالد قبل قليل على مائدة العشاء األخير بينهما ,كانت
94
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
وصلتا إلى مقهى "أبو طوني" القديم ,وطلبتا القهوة التركية وبعضاً
من قطع الكيك اإلنكليزي الناشف ,باإلضافة إلى أرجيلة عنب
لسلمى ,وبعدها راحت الصديقتان تتبادالن الحديث.
في هذه األثناء ,نوح وبعد أن بدأ يتعافى تدريجاً من آثار حادث
السيارة ,وعودة سارة إلى باريس ,خرج مع مجموعة من األصدقاء
إلى ملهى ليلي كمحاولة لنسيان واقعه ,والكفّ عن التفكير المستمرّ
بكارمن.
95
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
بعد وصول نوح وأصدقائه إلى الملهى الليلي ,ظلّ قاعداً صامتاً,
وجال في نظره يراقب الفتيات اللوات يرقصن لزبائن الملهى.
لجأ نوح إلى الشراب للهروب ,وقد أمرضه ما كان يشاهده .فتجرّع
كأس فودكا بعد أخرى ,جاهداً بيأس إلغراق قهقهات نساء المكان.
ومع ذلك ,لم يستطع أي مقدارٍ من السائل المخدّر أن يحجب صورة
كارمن التي ال تزال تخطر في باله.
لقد كان يرجو أن تبلّد الفودكا إحساسه ,ولكنها باألحرى جعلته أكثر
وعياً بشكلٍ أشدﱠ حدةً .عندها نهض ,غير قادرٍ أن يتحمّل أكثر.
96
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
ركض مسافة طويلة ,ثم توقّف للحظةٍ كي يلتقط أنفاسه ,أسند كتفه
على جدارٍ حجري ,وتقيّأ .أغمض عينيه بإحكام ,متمنياً لو يستطيع
أن يغيّر الماضي ,فسأل نفسه:
" -ماذا أفعل في لبنان ,ولما لم أرجع إلى باريس وأتابع عملي
وحياتي? فإذا كارمن باتت مستحيلة ,لِما أنا هنا?".
ثم وقف يجول بنظره إلى مكان يدخله ليغسل وجهه وفمه فيه.
هذا عن نـــــوح ,ولكن ماذا عن كارمن التي ال يشــــغل بالها ســـــــــــوى
الخالص من قيود خالد أبو الشريف التي دمّرت كيانها.
" -أقصد ميراثك من والدك رحمه الله ,والذي ال يشكّل المال فقط
بالنسبة إلى خالد ,بل يهدّد مركزه أيضاً".
" -لقد لمّحت له أثناء تناولنا العشاء بشيء من هذا ,ولكن ال أخفي
عليكِ ,أنا حقاً كما وصفني خالد ,ال أعرف إدارة األموال وخوض
األعمال ,باختصارٍ شديد ,ال يمكنني أن أقف بوجهه أبداً ,ألنه حوت
وباستطاعته أن يهزمني بسهولة".
97
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -ألم تخبريني مرّة ,أن نوح رجل أعمال ناجح? لماذا ال تطلبي
مساعدته?".
تنهّدت بحسرة عندما سمعت اسم نوح وأجابت على كالم سلمى:
" -أنا ال أعلم شيء عن نوح منذ آخر محادثة هاتفية قبل ليلة رأس
السنة".
" -وما المشكلة بذلك? يمكنك أن تتصلي به وتكلميه ,ألم تقولي إنه
صديق? فاألصدقاء عليهم مساعدة أصدقائهم قبل قضاء األوقات
السعيدة معهم".
" -غيّري الموضوع ,نوح قد انتهت قصته معي".
" -بل نحتاج إلى المحامي أوالً ,غداً ســـــــــــأتصل بمحامي والدي
األستاذ مروان نصر".
"كارمن! ..كارمن!".
انتفض بدن كارمن إذ ناداها صوت باسمها.
" -يا إلهي إنه صوت نوح" قالت كارمن في سرّها ,وخافت أن
تستدير باتجاه الصوت ,وراح قلبها يخفق بسرعة عالية.
98
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
نظرت إلى سلمى بذهول ,فوجدتها تبتسم لصاحب هذا الصوت ,ثم
ألقت بخرطوم األرجيلة على الطاولة ,وقالت له:
وقفت كارمن متجمّدة من هول الصدمة ,إذ تقدّم أكثر منها .كانت
مالمحه تغيّرت قليالً بعد الحادث.
" -افتقدتك كثيراً".
99
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
استطاع كلّ منهما قراءة نظرات اآلخر ,وإذ مدّ نوح يده نحوها ,ثم
لمس خدّها متردداً ,فضمّت كارمن شفتيها معاً لتحول من دون
ارتجافهما.
ثم فقد نوح السيطرة على نفسه ,وأخذ وجهها بين يديه .ملمس
بشرتها أنساه سبب وجوده هناك ,فقبّلها.
100
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
Chapter 10
ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻣﺆﻗﺘﺔ
101
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
لم ينتبها إلى الوقت الذي مرّ بسرعة ,الساعة قاربت الخامسة
فجراً ,سلمى ذهبت إلى منزل كارمن ونامت ,وهما تركا المقهى بعد
أن أخبرهما أبو طوني أنه يريد اإلقفال ,وترافقان إلى مقهى آخر
اختارته كارمن ,كان الطقس معتدالً يميل إلى البرودة المقبولة,
وجلسا على إحدى طاوالت الرصيف المحاذي للبحر.
" -أنتِ اليوم -وبنظري على األقل -أصبحتِ امرأة حرّة ,وأظن أنه
أصبح بإمكاني االعتراف لك بمشاعري ,كارمن انا أحــ."...
102
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -ال تكمل نوح ...ال أريدك أن تقولها -على األقل اآلن -ال أريد
السماح ألي فكرة تجول في رأسي بأن اتهامات خالد لي حقيقية...
أرجوك".
عادت كارمن إلى المنزل وأثر صوت نوح ما زال عالقاً في أذنيها,
كانت سعيدة جداً على رغم مأساتها.
المنزل مظلم يسكنه الهدوء ,فالجميع نيام حتى سلمى التي سبقتها.
دخلت الحمّام وخلعت مالبسها ووقفت تحت دش الماء الساخن.
103
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
لم تستطع أن تصدّق ما سمعت ,ما الذي أتى بهذا الرجل واالتفاق
بينهما يقول إن عليه البقاء ليالً بعيداً عن المنزل?
" -بل كنت أبحث عن دليل وحصلت عليه ,وقبل أن تُسمعيني المزيد
من وقاحتك ,دعيني أذكّرك بأن خالد أبو الشريف ما زال زوجك
وعليك واجب الطاعة له ,فإذا أنا قلت لك قومي بهذا ,فيجب أن
تطيعي وتقومي".
104
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -أنت اآلن في مأزق كبير ,ودليل خيانتك أصبح موثقاً معي ,أي أن
بإمكانك من اللحظة أن تعتبري أنك خسرتِ حضانة رودي ,وعليك
أن تطيعي األوامر التي سأصدرها ,وإال فستموتين بين جدران هذا
المنزل".
رفعت نظراتها إلى صورة أبيها الموجودة بجانب سريرها ,وتمنّت لو
كان ما زال حيّاً .عندها شعرت أن توفيق األسعد يمدّها بالقوّة
لمواجهة خالد مواجهة شرسة.
105
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
" -اخرسي وادخلي الغرفة ,فصوتك بات يسبب اإلزعاج ألذني ,إلى
الغرفة بسرعة ,انصرفي".
" -وهل ترى أن بإمكانك سَجني مدى الحياة? سأخرج وأسجنك أيها
المريض".
" -ومن قال أن سجنك سيدوم طويالً? ستخرجين قريباً جداً من
هنا إلى المقابر ,وأرثك أيضاً".
اقتربت منه جداً وقالت متحدية:
" -لقد فعلتها قبل فترة عندما دسست السم في القهوة لوالدك".
ودفعها بقوة على األرض ,فإرتطم رأسها على حافة الطاولة ,وغابت
كارمن عن الوعي.
106
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
Chapter 11
ﻗﺼّﺔ ﺟﺪﻳﺪة
107
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
ألن المطر ظلّ يهطل طوال الليل ,جاء الصباح شاحباً رمادياً كئيباً
كوجه بومة عجوز ,وبقيت في السماء قطعُ السحاب األطول سنّاً
لتحجب وجه الشمس.
عاد الرجل وجلس قريب منها على حافة السرير ,وسألها بهدوء:
"حبيبتي?!!!!"
108
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -أترغبين بتناول الفطور? لقد أعددتُ البيض مع القاورما ,ال بد
أن تكوني جائعة".
فتحت فمها لتسأله من يكون وما الذي جاء بها إلى هذا المكان,
فإذا بألم يبرق في حنكها ويخرسها .فسألها وهو يقوم بسكب طبق
لها:
اقترب منها وقدّم لها الطبق بعد أن جلس بقربها ,وقال بعطف:
" -هيّا افتحي فمك وكلي ,ومن ثم سأجيبك على جميع أسئلتك
كالعادة".
109
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
استسلمت .كان الجوع ينهش معدتها ,وكان البيض الذي أدخله في
فمها بالملعقة كحبّة دواء مهدئ ,فتضاءل نبض األلم في رأسها,
فيما كان حنكها يؤلمها ألماً مبرّحاً ,وقد وُضِع ذراعها في معالق
من قماش.
وكيف لها أن تتعافى وهي في منزلٍ غريب ,مع رجل ال تعرف اسمه
يناديها بحبيبتي ,وجسمها ال يقوى على الحركة?
" -سأغسل الطبق وأعود بعد قليل ,استريحي اآلن وسنكمل حديثنا
فور عودتي".
" -ال تذهب ,أريد أن."...
لم تتابع كالمها بسبب األلم ,فطبطب الرجل على كفّ كارمن وقال
هامساً:
110
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -لن أغيب طويالً ,صدقيني ,سأغسل الطبق وأنزل لشراء بعض
الحاجات للمنزل ,كما أن سالي موجودة هنا ,فال داعي للخوف,
أرجوكِ يا حبيبتي".
كيف يناديها بحبيبتي وهي تراه ألول مرّة ,ومن هي سالي أيضاً,
أسئلة كثيرة تتزاحم في رأسها واآلالم تمنع كارمن من إطالقها,
فأخذت بالبكاء ما جعل الرجل متسمّراً في مكانه يسألها:
" -أنا الذي أفنيتي عمرك ألجله ,أنا أكثر شخص تحبيه ,أنا أقرب
إنسان إلى قلبك ,تأملي وجهي جيداً يا عمري ,يجب أن تعرفي من
أكون بنفسك".
111
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
عاد الرجل وكانت كارمن مستيقظة تحدّق وهي على السرير الى
النافذة والخوف مُستَولٍ عليها.
راحت كارمن تتأمل هذا المكان ,وهي ال تعرف كيف وصلت إليه,
هبّت نسمة هواء ,فأزال الرجل عن وجهها خصلة شعر متطايرة
ودسّها خلف أذنها ,كانت صامتة متعبة ,وكان هو مستغرقاً في
التفكير ,مشّط شعرها بأصابعه ,وأمال رأسها إلى الوراء ,فرأى
الخوف في عينيها.
" -ما هذا الذي يحدث معي?".
112
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
برقت عيناه وهو ينظر إليها بمنتهى الرقّة والعطف ,ثم أدنى فمه
من خدّها ,ولمّا قبّلها ,شعرت أن هذا الرجل أقرب إليها من زوجها
خالد ,وحبيبها نوح ,وحتى من والدها الغالي أيضاً ,لم تشعر قطّ
بمثل هذا الشعور ,دفئاً وروعةً وصواباً .فسألته مجدداً:
ولكن العناية اإللهية تدخلت وأرسلت نوح الذي كتب لها رسالة على
الهاتف في تلك الليلة وشكرها على السهرة.
وبعد أن تلقى خالد رسالة غريمه نوح وقرأها ,أجابه بلسانها
برسالة طلب منه فيها أن يأتي ,فعل خالد ذلك لينتقم منه أيضاً.
عندما قرأ نوح الرسالة تأكّد أن من كتبها شخص آخر غير كارمن,
ألنه كان يعرف تماماً طريقتها في كتابة الرسائل.
113
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
سجن خالد وتلقى حكماً مؤبداً ,ولكنه انتحر بعد مرور يوم واحد
من تنفيذ حكم المحكمة ,ونوح سافر إلى فرنسا وأنهى جميع
أعماله المتعلّقة هناك ,وانفصل عن زوجته سارة وعاد للبقاء
بالقرب من حبيبته كارمن على رغم وضعها".
" -تزوجها ,ولكن آثار الضرب المبرح الذي سبّبه خالد لها ,جعل
من ذاكرتها تقف عند تلك الليلة فقط ,وتمسح كل ما تتلقاه من
أحداث وذكريات بعدها".
" -تركها?".
" -ال ,ظل معها لغاية هذه اللحظة ,ولكن في قلبها ,ألنه مات في
حادث ".
" -مات نوح?".
114
ﻓﺮاس ﺟﺒﺮان
" -لقد مرّ عن تلك الليلة المشؤومة عشرون سنة ,ورودي الصغير
أصبح رجالً ,وتزوّج من امرأة جميلة وأنجبت له ابناً أسماه نوح على
اسم الرجل الذي أحبه وربّاه ,رودي الصغير هو أنا يا أمي".
اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ
115
ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺐ
116